علي أنوزلا
يوجه رئيس اتحاد كرة القدم تحذيراً مباشراً وعلنياً إلى رئيس حكومة بلاده من التدخل السياسي في شؤون الكرة المستديرة. لم يحدث هذا في أعرق البلدان ديمقراطية، ولا في البلاد التي تكاد تكون فيها كرة القدم عقيدة شعبية. الحدث وقع في المغرب، عندما وجه فوزي لقجع، رئيس الاتحاد المغربي لكرة القدم، إنذاراً شديد اللهجة إلى عبد الإله بنكيران، رئيس حكومة بلاده، بأنه “لن يسمح لأي شخص مهما كان، ومهما كانت صفته ومنصبه بأن يستغل سلطته السياسية في الميدان الكروي المغربي”. وانتقد لقجع من قال إنهم “يريدون إقحام السياسة في المجال الكُروي”، في إشارة واضحة إلى تصريحات صدرت عن رئيس الحكومة الذي ينتمي إلى حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، هاجم فيها رئيس نادي الوداد البيضاوي، أحد أعرق الأندية الكروية وأكبرها في المغرب، وهو برلماني ينتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، الغريم السياسي لحزب رئيس الحكومة.
برر رئيس الاتحاد المغربي لكرة القدم هجومه على رئيس حكومة بلاده بضرورة الابتعاد عن أي إقحام للسياسية في المجال الرياضي، لتجنب إثارة مشكلات جديدة مع الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي لا يقبل أي تدخل خارجي في تسيير شؤون الكرة. فقد سبق للاتحاد الدولي أن اعترض على انتخاب رئيس الاتحاد المغربي، بسبب عدم التزامه ببعض قوانين وتوجيهات “الفيفا” التي تلزم وجود شفافية كبيرة في تسيير الرياضة الأكثر شعبية في العالم. وبالتالي، فإن رئيس الاتحاد المغربي لكرة القدم ليس في موقع من يعطي الدروس لرئيس حكومة بلاده، بالنظر إلى الانتقادات التي رافقت طريقة انتخابه التي اعترضت عليها “الفيفا” عندما تقدم “مرشحاً وحيداً”!
لكن، في خلفية هذه الانتقادات، ذات النفحة السياسية، الموجهة من رئيس الاتحاد الكروي إلى رئيس الحكومة، يكمن ما هو أعمق. أي الصراع التقليدي حول “توظيف السياسة في الرياضة”، خصوصاً مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية المحلية التي ستجري في سبتمبر/أيلول 2015. فحزب رئيس الحكومة، وهو حزب إسلامي محافظ، قواعده التقليدية بعيدة عن المجال الكروي، يخشى من أن يوظف غريمه السياسي، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أسسه مستشار الملك، شعبية كرة القدم في التنافس الانتخابي المقبل. وليست هذه المرة الأولى التي تمتد فيها ظلال الخلافات السياسية إلى مجال كرة القدم، كما أنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي توظف فيها الرياضة في الصراع السياسي.
فمنذ ظهور الرياضة فناً للتنافس داخل المدينة اليونانية، لم يكن التنافس دائماً رياضياً، وإنما بخلفيات أخرى، وأحياناً لأهداف سياسية. وتطور هذا الاستغلال للرياضة في مجال السياسة بشكل فج ومباشر، في ظل الأنظمة الشمولية والعسكرية. ولم تسلم من هذه اللوثة حتى الدول الديمقراطية، مثل فرنسا التي كان عمدة مدينة مرسيليا ورئيس فريقها “أولمبيك مرسيليا”، برنار تابي، في تسعينات القرن الماضي، يستغل شعبية نادي مدينته في صراعاته السياسية، حتى إنه كان يطمح إلى ترشيح نفسه لرئاسة بلاده. لكن، ما لم يتحقق لتابي الفرنسي، حققه سيلفيو بيرلوسكوني، الإيطالي الذي استغل شعبية نادي”ميلان الذي كان يرأسه، للوصول إلى زعامة حزبه، ومنه إلى رئاسة الحكومة في بلاده.
ولم يشكل المغرب استثناء مع هذه القاعدة، فقد ظلت الرياضة مجالاً خصباً للصراع السياسي، ولتصفية الحسابات السياسية، ولتعبئة الجماهير الرياضية خدمةً لأجندات سياسية متصارعة.
فقد ظلت الرياضة، وخصوصاً كرة القدم، تثير شهية تنافس السياسيين في المغرب، منذ عهد الحماية الفرنسية، حيث كان على رأس أندية رياضية مغربية شخصيات وطنية، قاومت الحماية بالرياضة. وتحولت أندية رياضية مغربية كبيرة إلى مربع للتنافس السياسي بين الأحزاب السياسية المعارضة والقصر، في عز الصراع السياسي بينهما، منذ ستينات القرن الماضي وحتى ثمانيناته. وتولت شخصيات سياسية مرموقة معارضة، أو مقربة من القصر، وأسماء عسكرية وأمنية كبيرة رئاسة أندية كروية.
ظلت كرة القدم، باعتبارها أحد أكثر الرياضات شهرة وشعبية وتسييساً في العالم، “خزاناً جماهيرياً” لا ينفذ، يراهن عليه السياسيون، ويتنافسون على كسب وده، واستغلال تأثيره. وأدى هذا الاستغلال السياسي للرياضة إلى أن تفقد الرياضة، كحاملة مجموعة من القيم النبيلة، جوهرها وعمقها. وبات الواقع الرياضي للبلد يعكس، بشكل كبير، واقع السياسة فيها.
ليست هذه الظاهرة، بالضرورة، حالة صحية داخل المجتمعات التي تشهدها، بما أن لجوء السياسيين إلى الرياضة يعكس، في العمق، ضعف التأطير السياسي داخل هذه المجتمعات، وضعف آليات هذا التأطير التي تمثلها الأحزاب السياسية. وهذا ما يعكس، اليوم، جزء منه الجدل المحتدم بين حزبَي، العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة في المغرب، وغريمه الرئيسي الأصالة والمعاصرة (المعارض)، مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، فقد استطاع هذا الحزب أن يبسط نفوذه على أكثر من نادٍ رياضي، من خلال ترؤسه أندية رياضية كبيرة، أو وجود أعضاء مؤثرين ينتمون له داخل أندية قوية.
فالرياضة، وخصوصاً كرة القدم، تحولت، في عالم اليوم، إلى أحد أكثر العوامل نفاذاً وقدرة على الحشد والتجميع، والضبط السياسي والرقابة الاجتماعية، بما لها من قدرة على إخفاء الصراعات السياسية والاجتماعية، والابتعاد عن التسييس والالتزام، والتعويض عن عدم المساواة الاجتماعية، بل وتبريرها، مع تغييب الوعي النقدي لدى الجمهور، وتوفير سعادة وهمية ولحظية له، وتوحيده في لحظات عاطفية مشحونة، حول كل ما يصور له على أنه مثل عليا، حتى لو كان مجرد مشاعر شوفينية، أو عنصرية.
فالرياضة، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي لوي ألتوسير، أصبحت بمثابة “جهاز الدولة الإيديولوجي الفعال”، وهناك من علماء الاجتماع من يرى فيها نموذجاً للأيديولوجية الفاشية الجديدة التي تقوم على عبادة النخب والرموز والأيقونات، وتمجيد الجهد العضلي على الجهد الفكري، وتبجيل الاحتفالية على العمل.
أليست هذه هي الوصفة السحرية التي تبحث عنها كل سلطة مستبدة، وتسعى إلى تحقيقها؟ فالرياضة، وكرة القدم خصوصاً، تقدم لها هذه الخدمة بلا جهد ولا ثورات، على أرض من عشب حريري أخضر.