ـ قراءة في كتاب “إمَارِيرنْ” للأستاذ أحمد عصيد ـ
سعيد جليل*
لا يزال البحث في تاريخ الأدب الأمازيغي بشكل عام والشعر الأمازيغي بشكل خاص يعاني من ندرة في الكتب والدراسات الموسعة والرصينة،ويشكل البحث في سِير وتراجم شعراء الأمازيغية وجمع أخبارهم وطرائفهم وتتبع اتجاهاتهم الشعرية جزءا لا يتجزأ من تاريخ الأدب وأساسا لدراسة النصوص الشعرية في علاقتها بمبدعيها وأصولهم الاجتماعية والثقافية،في هذا الإطار تأتي مساهمة الأستاذ أحمد عصيد بكتابه “إماريرن : مشاهير شعراء أحواش في القرن العشرين” الذي نشره مركز الدراسات الفنية والتعابير الأدبية والإنتاج السمعي البصري بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2011،ضمن سلسلة دراسات وأبحاث رقم :25، ونروم في هذه الورقة تقديم قراءة نقدية للمؤلَّف تحاور منهجه ومضامينه وتنبه إلى بعض الهفوات التي سجلناها على الكتاب،وهو شيء لا يمكن أن يخلو منه أي جهد بشري،خصوصا إذا انعدمت المصادر الموثوقة وقلت المعطيات التاريخية وتضاربت الروايات الشفوية وضاعت الحقيقة بين كل ذلك (وفاة مبارك بن زيدا سنة 1974 مثلاً).
إن العمل بحث من داخل الميدان والممارسة مؤطر بمعرفة نظرية وميدانية، وهو كذلك رحلة شيقة في المكان والزمان،عبر جغرافية الشعر (طاطا، أولوز ، إغرم ،إلالـن ، أيت وادريم ،أشتوكن ،مزوضة ،إسكتان ،أرغن….) و مع أجيال الشعراء الكبار الذين بصموا “إسوياس ” بحضورهم الفاعل،و من خلال المحاورات الأكثر شهرة وحدّة بمقياس الشعر، و القصائد المعبرة والمؤثرة التي تتناقلها الألسن ،والملابسات التاريخية والاجتماعية والشخصية التي تحيط ببعض النصوص وتنير غوامضها.
كتابٌ ما أن تشرع في قراءته ،إن كنت بالفعل عاشقا لشعر “أسايس”، مفتونا بفن “أنعيبار” و” تانضّامت” و”تازرّارت” و”تاسّوست” و”أزاوار”…،شغوفا بأخبار الشعراء و ومعاركهم ونوادرهم ، هاويا لفك مغالق الرموز الموظفة في “أماركَ” ،حتى تجد نفسك في الصفحات الأخيرة منه،فتتمنى لو كان هناك المزيد من تلك المادة الأدبية النفيسة التي لم يجمعها كتاب من قبل.
يقع الكتاب في مجلد من 415 صفحة من القطع الكبير، ويتناول الباحث في تقديم من 17 صفحة تعريف “أمارير” ومراحل تكوينه وتقنيات النظم المُرتَجل في أسايس أو “أنعيبار” وآليات الاستقطاب النفسي للجمهور من طرف الشعراء، ويختمه بالحديث عن المستقبل المفترض لإماريرن وفن أحواش بوجه عام في ظل التهديد المستمر للفنون التقليدية من طرف موجات العصرنة و التحولات التي طالت الأذواق والفنون،وهو ما جعل الكثير من أنماط أحواش مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالانقراض،ورغم ما ذُكر فلا يمكن إغفال التجديد الذي طال فن أحواش خصوصا الدرست وأهناقار وتأثرهما بالتحولات الاجتماعية والثقافية حيث أصبح تدبير الفن بيد جمعيات تعنى به وبتسويقه والتعريف به وطنيا ودوليا،كما أنه انتقل من فضاء “أسْرير” بالبادية السوسية إلى المسارح وقاعات الأفراح والمهرجانات المقامة بالمدن المغربية المختلفة(مراكش،الدارالبيضاء،الرباط،القنيطرة،مكناس،طنجة،…)،وبالمقابل أصبح الإغراء المادي يمارس تأثيرا كبيرا لا على الجمعيات وحدها، بل على الشعراء كذلك، إذ يمكن الحديث اليوم عن الشاعر “المحترف” الذي يتفرغ لممارسة فن أحواش في فترات “الطلب” بمبالغ كبيرة مقابل ساعات محددة من الحضور أحيانا! وتسجيل الأشرطة الصوتية والأقراص المدمجة في فترات “الكساد” وعليها عبارة الجذب والإغراء “أحواشْ ن تفْرخين/تيعيالينْ”،وذلك بعدما كانت ممارسة أحواش هواية وواجبا ورسالة بعيدة كل البعد عن الأنانية والمطامع المادية والشخصية،هذه الأخيرة التي تفسر عدم استمرار كثير من الشعراء في نهج طريقة “الثُّنائي” وانشطار كثير من فرق أحواش القوية إلى فرق منشقة ضعيفة.
يترجم الباحث ل 49 شاعرا مرتجِلا للنظم و ممارسا لفنون أحواش المختلفة،منهم شاعرتان ( سيا ؤلت تيغرمت/ خدّوج تاحلوشت )،ويتوزعون كالتالي : 40 شاعرا ممارسا لفن أهناقار ahnaqqar أو الدرست ddrst السائدين على التوالي بطاطا و تارودانت وهما نمطان متقاربان لا تتجاوز الاختلافات بينهما بعض جزئيات الرقص والإيقاع إذ لا يجد شاعر أهناقار صعوبة في ولوج فن الدرست ،والعكس صحيح، و 5 شعراء ممارسين لفن أجماك ajmak السائد بأشتوكن و أيت باها وبعض مناطق تيزنيت، و 4 شعراء يمارسون قرض الشعر ارتجالا في أحواش بمنطقة أُنزوطت unzudt وما جاورها،أما المذكورون من الشعراء والشاعرات في الكتاب إجمالا فيتجاوزون 130 شاعرا من مختلف مناطق سوس والحوز التي يسود فيها قرض الشعر ارتجالا،ولا شك أن ارتجال الشعر يشكل أحد المكونات الأساس لفن أحواش باختلاف أنماطه إلى جانب الحركة والإيقاع والإنشاد الفردي والجماعي،كما أن بعض الشعراء يعدون من مزودي الروايس والمجموعات الغنائية بالقصائد الغنائية (عمرإجيوي،عمر برغوت،احماد الريح،احماد ؤدريس،سعيد ؤزرو…) .
وقد اعتمد الباحث في عمله على “المعايشة الحميمية لعينة نادرة من الشعراء على مدى أزيد من ثلاثين سنة “(ص 5) والمقابلة المباشرة مع الشعراء إذ بفضل تجربته الشخصية في ارتجال الشعر التي انطلقت منذ 1979 ،وارتياده لمختلف مناطق سوس ومشاركته المُميَّزة في إسوياس خصوصا مع رفيقه الشاعر الكبير إبراهيم لشكَر تمكن من الإلمام الواعي بفن أحواش وتقنياته،والاتصال بجل الشعراء المترجم لهم بحيث فهِم خصائصهم النفسية ومميزات شعرهم واتجاهاتهم وتجاربهم في الشعر والحياة،كما اعتمد بالنسبة للشعراء الأموات على السماع من الرواة ومن الباحثين الذين دونوا أشعارا لفائدة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في إطار التعاقد ( ابراهيم أوبلا،خالد المديدي،محمد أفقير…)،وعلى الأشرطة الصوتية والأقراص المدمجة،وهكذا ينوّع الكتاب من مصادر المادة الشعرية وسِيَر الشعراء،كما يُعيد الاعتبار لمجموعة من الأشخاص الذين لهم دور كبير في حفظ الذاكرة الأدبية الأمازيغية رغم أنهم يعيشون على هامش الممارسة الشعرية مثل المرحوم عبد الله البصير (أيت وادريم) والرايس سعيد جاروري (أزدّو) وغيرهم من الذين لم يوفُّوا حقهم من الذكر والتكريم إلى اليوم.فالعمل إذن يزاوج بين التأريخ والنقد الأدبي و الأنطولوجيا من حيث إعمال تفضيلات الباحث في انتقاء المختارات الشعرية من إنتاج كل علَم من المترجَم لهم في الكتاب،كما أنه ردٌّ للاعتبار وتكريم وتعريف بأعلام الشعر الأمازيغي الذين يرتجلون القريض في “أسايس”.
ويتبع المؤلف منهجا كرونولوجيا في تراجم إماريرن،إذ بدأ بالشعراء الذين ولدوا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وقضوا نحبهم في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين فهم بذلك يمثلون الجيل الأول لإماريرن ومن أبرزهم لحسن بوزنير وعمر ؤلحنفي وأكَناو ن ؤمالو و بلاّ ن ترعمت…،ثم الذين ولدوا في الربع الأول من القرن العشرين كمبارك بن زيدا و محمّاد إحبيرّو وبوسلام ؤعمر…وهم يمثلون الجيل الثاني,فالذين ولدوا في منتصفه كالحسْن أجماع و إحيا بوقدير أزدّو والحسَن أولحاج وعمر برغوت وابراهيم لشكَر وآخرون ليختم بالرايس عابد كَ ئِشت أصغر شعراء أسايس على حد تعبيره !؟ (ص 405)،وتُلاحظ على هذا التصنيف أمور كثيرة,منها:
ـ أنه يَفترض في القارئ معرفة سابقة بأنماط أحواش حتى يميز بين شعراء أهناقار والدرست وأجماك وأحواش مزوضة من المترجم لهم في الكتاب،فالباحث يضع الحاج احماد الريح مثلاً بين خدوج تاحلوشت وبوسلام أزدّو رغم تباين الأجناس التي يرتجلون فيها الشعر.
ـ أن الباحث لا يلتزم دائما بسنة الميلاد في التراجم التي يوردها،إذ نجد مثلا ترجمة الهاشمي أزدّو تسبق ترجمة امحند باخشين وعبد الله أوشن ،وحجوب حيماد يسبق عمر إجيوي،…
ـ أن الباحث يورد اسم بعض الشعراء منسوبا إلى أبيه في موضع،ثم يذكره منسوبا إلى بلدته في موضع آخر، مما يجعل القارئ يحسبهما شخصين مختلفين وما هما في الواقع إلا اسمان لشخص واحد،ومثال ذلك : ئدّر ؤعلي / ئدّر ؤتازولت ، عابد كَ ئشت / عابد حمايد…
ـ أن هناك هوة شاسعة في آخر التراجم بين الشاعر الحْسن إكَاسي المزداد سنة 1958 و عابد كَ ئشت المزداد سنة 1976، قد توهم من جهة بأن عابد أصغر شعراء أسايس الكبار والأمر ليس كذلك إلا إذا اعتبرنا الشهرة الإعلامية وتسويق الاِسم بمختلف الطرق،وتُوهم من جهة ثانية بأن هناك “فراغا” من الشعراء في أسايس الذين ولدوا في فترة نهاية الخمسينات والسيتينات وبداية السبعينات مع أن الواقع غير ذلك.
ـ أن هناك اضطرابا في التأريخ لبعض الشعراء، فيذكر الباحث مثلاً أن محند باخشين ولد سنة 1886،وتوفي سنة 1987،لكنه يعقب تارة بأنه تجاوز المائة بسنوات عديدة ،ثم يذكر أنه توفي عن سن مائة وعشر سنين (ص 86) ،أي أن ميلاده يُرجح أن يكون عام 1876،وليس ما تم إثباته في الترجمة، وهو ما يُلاحظ كذلك في ترجمة عمر إجيوي إذ أورد الباحث أنه توفي سنة 1996(ص 140)، لكنه ينقل محاورة جرت بين إجيوي والحَسن ؤلحاج “بمزوضة يوم 27 يوليوز 1997 قبل وفاة إجيوي ببضعة أشهر”!؟ (ص 262) وهو ما يخالف التاريخ الذي سبق ذكره.
وتتكون كل ترجمة من تعريف بالشاعر المعني و مولده و بلدته وكيفية ولوجه عالم الشعر والمحاورة وكل ما يتوفر عن تجربته الفنية،ومميزاته النفسية وسلوكه في “أسايس”,وأهم الذين تتلمذ على يدهم أو حاورهم شعرا, ثم يلي ذلك حديث عن الخصائص العامة لشعره مع مختارات من أجود محاورات الشاعر وأقواها تثبت ما سبق وتعضده، وبعض من قصائد “تازرّارت” أو الرسائل الشعرية إن وجدت في إنتاج الشاعر،ويُلاحظ هذا النوع الأخير من الأدب عند شعراء مزوضة (الحسن ؤلحاج،عمر إجيوي…) و أيت وادريم (احماد ؤدريس، احماد حنتجّا…) والحسن أجماع وابراهيم لشكَر و الحسين أساكني وآخرين، وهو جدير بدراسة خاصة، على أن الباحث لا يعتمد معيار غزارة الإنتاج خصوصا حينما يتعلق الأمر بالمتقدمين من الشعراء،فقد ترجم للذين يدلون بدلوهم في المحاورات بالأبيات القليلة الموجزة،كما ترجم للذين يبدعون القصائد الطوال التي يودعونها الغزَل أو الأحداث التاريخية وما إلى ذلك.
وإذا كان بعض المثقفين الأمازيغ الذين اهتموا بالتاريخ والثقافة الأمازيغية وجرفتهم النزعة العروبية المشرقية في فترة معلومة من تاريخ المغرب قد أولوا عناية كبيرة ل”نبوغ المغاربة” في الأدب العربي،و اعتبروا سوساً عالمة مبدعة بلسان غيرها وتتبعوا أعلامها وأسرها العلمية،فمن حسنات الكتاب أنه أبرز ولو بشكل غير مباشر دور بعض الأسر الشعرية بسوس والحوز في إمداد إسوياس بطاقات شعرية فريدة أبدعت بلغتها الأم وقدمت مساهمات وروائع لا تقل بلاغة وبيانا عما يوجد في كل آداب الدنيا ولغاتها،ومن تلك الأسر : أسرة بن ئغيل،أسرة الحنفي،أسرة أساكني ،أسرة بيضني،أسرة برغوت،أسرة جاخّا…كما يمكن ملامسة خصوصيات المدارس الشعرية من خلال إنتاجات أعلامها،ذلك أننا نجد مدرسة تارودانت/طاطا، ومدرسة أشتوكن/أيت باها، ومدرسة الحوز ولكل واحدة منها طرق و مميزات وأوزان مفضلة وتيمات سائدة.
وعلى فرض أن كل شاعر قد طرق جلّ الأغراض والمواضيع التي تروج في المجتمعات المحلية وتفرض نفسها في أسايس المرتبط عضويا بقضايا الإنسان والمجال وخصوصياته السوسيولوجية والاقتصادية والذّهنية، نجد اتجاهات موضوعاتية لدى الشعراء من خلال الكتاب، فالاختيار الغزلي يبدو واضحا لدى علي بيضني وئدر ؤتازولت والحسن إكَاسي…والسياسي/الاجتماعي لدى محماد بويحزماي وابراهيم لشكر…والاتجاه الحكمي عند عبد الله بوزيت وسعيد كَ ؤزرو وعمر برغوت…ومنحى السخرية لدى عبد الرحمان ؤدوساون والحسين أكَرّام…والهجاء اللاّذع عند كل من الحسن إكَاسي وبوبكر أخياط ومبارك بن زيدا…
وقد توفق الأستاذ عصيد في رسم البورتريهات الدقيقة التي استهل بها كل ترجمة إذ حاول أن يمسك بالمميزات النفسية والطباعية للشعراء المترجمين الذين عايشهم مع إيراد مسالكهم في النظم والمعاملة، وما إلى ذلك،فلا تجد وصفا مكرورا أو نمطيا أو حشوا لا طائل من ورائه.
وعلى أهمية التقديم الذي استهل به الباحث الكتاب نجد أن مضمونه ينطبق بالدرجة الأولى على شعراء نمط أهناقار و الدرست السائدين بمنطقة طاطا وتارودانت، إذ لا يشترط الصوت الحسن (ص 9) في أحواش مزوضة ولا في أجماك ن واشتوكن لوجود الإنشاد الجماعي الذي يحمل عن الشاعر عبء إيصال الأشعار إلى الجمهور “أكَدود”agdud، كما لا يُشكل ” النظم في إسّوسن ن تمغارين” (ص 12) مرحلة من مراحل تكوين الشاعر في أجماك مثلا،لأن غناء النساء “لهضرت/ تاجماكت” في المناطق التي يسود فيها هذا الفن ( أشتوكن،أيت باها،تنالت،أيت وادريم…) مستقل عن الرجال إلا ما كان من ضبط الإيقاع ، ثم إنه لا يكون إلا داخل البيت غالبا.
تبين قراءة هذا الكتاب مدى الجهد المبذول فيه، وسبقه إلى ارتياد عوالم “أسايس” وشعرائه، في الفترة الراهنة التي تعد ” عصر تدوين الآداب الأمازيغية”، ولمّ شتاتها والتأسيس النقدي لها، ونرى ضرورة تقديم جملة من الملاحظات عليه :
1ـ في حين يذكر الباحث تجربة عمر إجيوي و سعيد كَ ؤزرو مع فن الروايس “أماركَ ن رّيباب” لم يذكر شيئا عن تجربة الحسن أجماع وإحيا بوقدير و حتى عثمان أزوليض مع قصيدة الروايس، رغم الرصيد الهام من الأشرطة الموسيقية التي سجلوها خصوصا مع الحسن الساخي،وكذا خلفيات المعارك الشعرية الهامة التي كانت بين الثنائي إحيا/أجماع برفقة ملك الرباب محمد ؤمبارك بونصير، وبين الحسين أمنتاكَ برفقة محماد ألبنسير (الدمسيري)، وعرفت كذلك حضور الرايس محماد بيسموموين. وهذا يطرح أسئلة هامة حول علاقة أحواش ب فن تيرّويسا بشكل عام،إذ لوحظت ظاهرة ولوج شعراء أحواش تارودانت فن الروايس في الثمانينات ثم انسحابهم منه بعد ذلك!كما تُلاحظ المزاواجة بين تيرّويسا وأحواش عند بعض شعراء مزوضة (إجيوي،أهروش،الحسْن بوميا،ؤطالب،بيسموموين…) والحضور غير المباشر لبعض شعراء أسايس من خلال تزويد الروايس بالقصائد (عمر برغوت،احماد الريح،احماد ؤدريس،سعيد كَّوزرو…).
2ـ كان التزام التوثيق العلمي يقتضي الإشارة إلى جهد الأستاذ أحمد بوزيد الكَنساني في كتابه “أحواش :الرقص والغناء الجماعي بسوس” الذي يعد اجتهادا هاما في هذا الباب،كما كان من الواجب الإشارة إلى المحاورات السياسية والاجتماعية الرفيعة التي تضمنها كتاب “أنعيبار : أماركَ ن ؤسايس” أثناء ترجمة ابراهيم لشكر ومعلوم أن الكتاب يتضمن محاورات أحمد عصيد مع لشكَر من سنة 1988 إلى 1995، وعددها 17 محاورة، وتعد أول تجربة لتدوين المحاورات الشعرية المرتجلة في ما نعلم.والأمر نفسه بالنسبة لمشاركة الأستاذ عصيد في بعض المحاورات الواردة في الكتاب إذ يفضل عدم ذكر اسمه،ولئن كان في ذلك نكران للذات وتواضع معهود في الرجل،فإن التوثيق والإثبات في هذا المقام مطلوب (محاورة بيضني مثلا،ص : 168).
3ـ إن الكتاب ولا شك يتوجه لشريحة كبيرة ليس من الباحثين فقط، بل من القراء العاديين كذلك،لهذا كان يجب إيضاح طريقة قراءة الأشعار،ورموز الحروف : ش،غ، ع، ز مفخمة، ط،ض، ق،ر مفخمة ،ح. علاوة على قاعدة الإدغام و الحروف التي يسقطها الشعراء من الكلمات حتى يستقيم الوزن، وهذه أمور إذا لم يكن القارئ على دراية بها سيقرأ النصوص قراءة خاطئة، خصوصا وأن الشعراء يتصرفون في الكلمات حسب مواقعها، فالشعر بهذا المعنى ما يُسمع من فيّ الشاعر لا ما يُقرأ أو يُتداول بشكل طبيعي.
4 ـ إن تقديم صورة مثالية عن “أسايس” لئن كان يصب في اتجاه الدفاع عنه وحمايته باعتباره تراثا ثقافيا وطنيا وإنسانيا، فإنه يتغاضى عن السلبيات التي تُخرج الممارسة الفنية من إطارها النبيل إلى حسابات مادية و صراعات شخصية ضيقة بين بعض الشعراء،والتي أصبحت تهدد أسايس من الداخل،علاوة على بروز نزعة تسويقية أدت إلى تمييع فن أحواش وشعره،بالإضافة إلى ما يُمارس من احتكار الشعراء “الكبار” لسلطة النظم/القول الشعري في أسايس وممارستهم للعنف الرمزي ـ المتمثل في النبذ والإقصاء بشتى الطرق ـ على الطاقات الشعرية الشابة التي تمثل الخلف .
5 ـ يتم التغاضي في الغالب عن الهنات العروضية التي يسقط فيها الشعراء في أسايس، إذ هناك مرونة في هذا الجانب مقابل السعي لتحصيل المعنى في أحسن الأحوال، أو مجرد الرد على “الخصم” بأي وسيلة في أسوإ الأحوال انسجاما مع مبدإ المعاكسة والمناقضة ، وهو عكس ما نجده في شعر الروايس الذي يفرض فيه الإيقاع والآلات الموسيقية صرامة الوزن،وعلى الرايس أن يتلافى في قصيده المُختل عروضيا (أبْلاضْ)،وخير نموذج في هذا الباب شعر محماد ألبنسير.
6 ـ لا يجب أن تهيمن النزعة الماضوية على دارسي الشعر الأمازيغي المرتجل،ونقصد بها الإعلاء من الشعر القديم لا لشيء إلا لأنه قديم تحت مبدأ “ليس هناك أفضل مما كان”،فليس كل شعر قديم جيدا ،وليس كل حديث رديئا،فالجودة في أسايس ترتبط بنوع الحوار والمحاوَر وزمن و مكان المحاورة ونوع المتلقين ومزاج الشاعر، فكما قال محمد ألبنسير ” أزْمزْ أيْسرواتْن د ؤنّرار ئخ ئلاّ صّيفْ” فالشاعر المتوسط قد يكون مجيدا إذا توفرت له الظروف، والشاعر الكبير قد يكبو إن لم تجتمع له شروط الإبداع.
ومن نافلة القول،أن ما سبق لا يطعن في الجهد المبذول بل يعضده ويسنده، ونتمنى أن يستدرك الباحث ما فاته من شعراء أسايس الفطاحل سواء من المتقدمين أو من المتأخرين، مع إعطاء الأولوية بالطبع للتعريف بالمتقدمين ثم الذين بعدهم ،كعمر ؤتلوا utlwaمن تافينكَولت الذي كان محاورا قويا لعبد الله بوزيت، والشاعر مبارك أشيلّوشacilluc و ؤضُّور uddur من طاطا،ومحماد بالمهدي من إداوزدّوت…،وعمر ألكجون والدكوم وسعيد ن لحاج وموح ؤعلي وحدّان… من أشتوكن/أيت باها،والحسين ؤييدار وبلقاضي وبيهي أجالاّض ومحماد بيسموموين… من الحوز.فمواصلة الجهد والعمل مطلوب من الأستاذ عصيد للتنقيب والبحث في تاريخ “إماريرن” حتى يتعزز هذا العمل بأجزاء أخرى تميط اللثام عن الحياة الشعرية في إسوياس التي تشكل بسوس والحوز فضاءات للحوار السياسي والاجتماعي والفلسفي، والموضوع المحلي والكوني،وللتلقي الفني والمعرفي والقيمي الذي يضمن حياة اللغة الأمازيغية بتجدد إبداعها وارتباطها المستمر لا بحياة الأمازيغ وهمومهم وحسب،بل بوجود الإنسان وآلامه وآماله حيثما وُجد .
ـــــــــــــــــــــــــ
* باحث في الثقافة الأمازيغية.
6