كثيرة هي التحولات في الأحزاب السياسية المغربية الكبرى في الآونة الأخيرة، و مرد ذلك إلى صعود فئات أخرى من المجتمع و سطوع نجمها في عالم السياسة، فئات لا تنتمي إلى العائلات الأرستقراطية المشهورة و إنما إلى طبقات اجتماعية فقيرة و استطاعت أن تبني أمجادها بعرق جبينها و مجهودها و كدحها، دونما استناد إلى ميراث مادي أو رمزي لهذه العائلة أو تلك، و أقصد العائلات التي بسطت نفوذها على الهيئات السياسية المغربية مثلما بسطت نفوذها على المؤسسات الإقتصادية و المالية الكبرى، بل حتى المناصب الإدارية ذات التأثير الكبير في تسيير دواليب الدولة. و لا ريب أن حزب الاستقلال أكبر أنموذج في هذا الأمر، فقد استطاع أمينه العام الحالي حميد شباط اجتثات النمط الأوليغارشي داخل الحزب اعتمادا على نضاله و تدرجه في مقامات المسئولية داخل هذا الحزب العتيد و بآليات ديمقراطية، رغم المقاومة الشرسة لهذا الأخطبوط الأوليغارشي الذي دفع بعبد الواحد الفاسي لمنافسته، و استطاع الأول الإنتصار عليه و اكتستاح أصوات الإستقلاليين، و لأن الأوليغارشية الحزبية لا تؤمن بالديمقراطية و إنما تستعملها صوريا فقط و تدبج بها الخطابات و تلوكها بألسنتها حتى توهم عامة الناس أنها حاميتها في وقت هي حراميتها، فقد سلكت تلك الأوليغارشية طرقا أخرى في سعيها بلا هوادة لإسقاط الأمين العام الاستقلالي الذي فاز ديمقراطيا بأغلبية الأصوات.
إن اقتلاع الأوليغارشية زلزلة للأحزاب، و لكنها زلزلة صحية تهدم البناء المغشوش الذي يوهم الناس بعظمته و تماسكه و هو أهون من بيت العنكبوت، فقد طال ليل التسلط و الديكتاتورية في هذه الأحزاب أكثر من اللازم، إذ بعد مغادرة رجالات الدولة الكبار، إما إلى دار البقاء أو دار الإعتزال، ارتمى الأبناء و الأحفاد و ذوي القربى على هذه المؤسسات فعاثوا فيه استبدادا، و جعلوها مطية لمصالحهم، و شتان بينهم و بين آبائهم الزعماء، فالله يخرج الميت من الحي مثلما يخرج الحي من الميت. لكن الزلزلة و ارتداداتها مستمرة حتى تعلن عن قارعة الأنساب في هذه الأحزاب التي باتت بسبب التسلط الأوليغارشي تعوق المشروع الديمقراطي الحداثي، و تشكل حاجزا أمام التنمية، نظرا لأوسلوبها المتجاوز في التدبير و استبعاد الكفاءات من أبناء الوطن و محاربتهم بالكولسة البغيضة.
تتساقط أوراق التوت الأوليغارشية تباعا معلنة عن خريفها، و يسقطها الجيل الجديد من أبناء الوطن المتشبع بالفكر الديمقراطي و الحداثي، معتمدين على آليات واضحة و ديمقراطية و منهج يمتح من روح السياسة الرشيدة للملك محمد السادس.
إن هذا الجيل الجديد من السياسيين داخل الأحزاب السياسية الكبرى لا يعترف بالأنساب و البنوات و المصاهرات من أجل تقلد المناصب، و إنما يعترف بالنضال و بالكفاءات، يعترف بحق كل مواطن مغربي في التأطير السياسي أولا و بحقه في تقلد المسئوليات ثانيا، فالوطن للجميع، و من حق الجميع أن يسهم في خدمة الوطن كل حسب إمكانياته، كما يؤمن هذا الجيل أن الديمقراطية ليست فطريات تنبت في الأزقة، و ليست جوقة يجمعها الهتاف في الشارع، و إنما تعلم و تكوين و تمرس يتم داخل الأحزاب، كما أنها تطبيق يتم من خلال تلك الأحزاب. و إن هذا الجيل يرفض أن يكون حطبا لشرعية المتسلطين و المفسدين الذين يتقلدون المناصب و يبلغون المراتب بسلاليم الأحزاب المحكومة بالأنساب.
ابراهيم الفتاحي