الهولندي بيرت فلينت مستكشف الأقاصي الفنية

الهولندي بيرت فلينت مستكشف الأقاصي الفنية

- ‎فيفن و ثقافة, في الواجهة
603
التعليقات على الهولندي بيرت فلينت مستكشف الأقاصي الفنية مغلقة

عبد الرزق  القاروني*

   بيرت فلينت، باحث وأنثروبولوجي هولندي الأصل، ومغربي الموطن، جماع للتحف النادرة، خبير بثقافات المغرب وبلدان جنوب الصحراء، خصوصا الفنون الأفرو- أمازيغية، راع لكل ما هو جميل في هذه الثقافات، وحريص على إبرازه والحفاظ عليه من الضياع، منذ ما يزيد عن ستة عقود، عشق الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس، فقرر الاستقرار بمراكش، من أجل دراسة تجليات هذه الحضارة في مختلف المناحي اليومية للإنسان المغربي.

حياة متوهجة

   رأى فلينت النور بمدينة جرونينجن الهولندية سنة 1931، وحصل على دبلوم في اللغة والأدب الإسبانيين من جامعة أوتريخت. وخلال زيارته لقصر الحمراء بغرناطة، تولد لديه اهتمام كبير بتاريخ وحضارة الأندلس. وخلال زيارته للمغرب سنة 1954، لاحظ سعي السكان الحثيث للبحث عن الجمال والأناقة، كما لو كان ذلك هو هدفهم الأسمى في الوجود. وكانت مراكش من المدن المغربية التي تجسد هذا المنحى، ما جعله يستقر بها سنة 1957، حيث درس اللغة الإسبانية بثانوية محمد الخامس، ليدرس، بعد ذلك، لغة شكسبير بثانوية ابن عباد.

   وأثناء الفترة الممتدة ما بين 1965 و1968، عمل أستاذا لتاريخ الفن بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء. وفي سبعينيات القرن الماضي، شارك في العديد من المعارض والمؤتمرات بمتاحف وجامعات أوروبية وأمريكية. وفي سنة 1981، تخلى عن التدريس، ليتفرغ لإبداعه الخاص، المتمثل في إضفاء طابع معاصر على نماذج من الملابس المغربية التقليدية.

   وفي بحر سنة 1990، شارك في بعث المتحف البلدي للتراث الأمازيغي بمدينة أكادير. وأثناء سنة 2006، منــح متحــف تيســكوين، بمعروضــاته ومبانيــه، لفائــدة جامعــة القــاضي عيــاض بمراكــش. وخلال سنة 2015، قدم منسوجات وأقمشة مجموعاته لمتحف بيير بيرجي للفنون الأمازيغية، التابع لحديقة ماجوريل بذات المدينة. 

   ولهذا الباحث عدة مؤلفات وأبحاث باللغة الفرنسية، من أبرزها كتاب “الشكل والرمز في فنون المغرب: المجوهرات والتمائم”، الصادر سنة 1973، ومؤلف “الثقافة الإفريقية- الأمازيغية الضاربة جذورها في تقاليد العصر الحجري الحديث الصحراوي في شمال إفريقيا ودول الساحل”، المنشور بمؤسسة حديقة ماجوريل بمراكش سنة 2018، والذي يعتبر ملخصا لرحلاته البحثية والاستكشافية لتراث شمال إفريقيا والساحل، إضافة إلى دليل متحف تيسكوين بمراكش الموسوم بـ “الكوكب الأفرو- بربري، الفنون العابرة للصحراء في متحف تيسكوين، من مراكش إلى تومبوكتو”، الصادر سنة 2021.

  ولقد كان هذا الباحث يعلن عن عدم رغبته البتة في مغادرة المغرب، لأن هناك العديد من الأشياء، التي ينبغي اكتشافها وتحقيقها في هذا البلد، خصوصا في مجال البحث حول الفن الشعبي، مبرزا أنه يشعر بكونه لا يتوفر على الوقت الكافي للقيام بكل ما يرغب فيه.

   وبعد مسار متوهج، حافل بالعطاء الغني والمتنوع، توفي فلينت، يوم الثلاثاء فاتح نونبر 2022، بمنزله- المتحف عن عمر يناهز 91 سنة، حيث دفن بالمقبرة الأوروبية، عشية يوم الجمعة 04 نونبر 2022، بحضور جمهرة من محبيه ومعارفه، وبعض وجوه عالم الفكر والفن بالمغرب. وفي شهادة في حقه، بهذه المناسبة، قال عنه المؤرخ المغربي حميد التريكي: “عاشق من المغرب، رسم بالذهب جزءا من تاريخ الفن بالعمل على تقارب الفن القروي والفن المعاصر”، مشيرا أن هذا الرجل، الذي كرس حياته لتوفير مجموعات غنية بالتاريخ للجمهور، يستحق تقديرنا، ويستدعي زيارة متاحفه في أكادير ومراكش. كما ينبغي، بعد مماته، كما قال الباحث محمد أيات، ذات مرة، أن نبادل هذا الرجل ذات الحب والاحترام اللذين يكنهما لنا.

المتحف المتفرد

   إن متحف بيرت فلينت المسمى بمتحف تيسكوين من المتاحف المتفردة بمراكش، حيث يستمد اسمه من الرقصة الأمازيغية بذات الاسم، التي لها حمولة حربية، مشهورة بمنطقة جبال الأطلس الكبير الغربي، والتي تم تصنيفها من طرف اليونيسكو سنة 2017، ضمن التراث الثقافي غير المادي، الذي يتطلب حماية عاجلة، من أجل ضمان استمراريته وتداوله بين الأجيال القادمة.

   ويقع هذا المتحف بالمنزل الخاص لفلينت بعمق المدينة القديمة لمراكش، غير بعيد عن متحف الباهية، وهو عبارة عن رياض جميل، مشيد في بداية القرن التاسع عشر، وفق أساليب الهندسة الأندلسية المغربية، ويعرض، منذ تاريخ تأسيسه سنة 1989، العديد من التحف النادرة من الصناعة التقليدية، والأعمال الفنية، والكتب والملابس والحلي، التي تعود إلى حقب زمنية مختلفة، والتي تتبث أن الساكنة التي تعيش بين جنوب المغرب ومنطقة الساحل، تشكل مجتمعا ثقافيا واحدا، يتقاسم ذات التقاليد والبيئات الطبيعية، التي يعود أصل معظمها إلى حقبة ما قبل التاريخ. وفي هذا الإطار، يقول فلينت: “لقد عزز تشكيلي، مؤخرا، لمجموعة قطع تعود للعصر الحجري الحديث، ورحلاتي الأخيرة من المغرب حتى النيجر، قناعتي الأولى بأن المغرب مرتبط ارتباطا وثيقا، منذ عصور ما قبل التاريخ، بعالم جنوب الصحراء الكبرى”.

   ويعتبر هذا المتحف معلمة سياحية وثقافية، ومحجا للسياح المغاربة والأجانب بمراكش، إضافة إلى كونه من أقدم المتاحف بهذه المدينة، وأكثرها إثارة للإعجاب بإفريقيا، حسب صحيفة “دايلي مافيريك” الجنوب إفريقية، ويعد مؤسسه، وفق تعبير الباحث والناقد الجمالي المغربي فريد الزاهي، كشافا للهوامش الفنية في المغرب، وعاشقا لفنون الشعب، وكذا مرجعا لا مندوحة عنه لمعرفة الصنائع التقليدية المغربية خارج الحواضر.

معرض الوداع 

   خلال الفترة الممتدة ما بين 21 أكتوبر 2020 و01 غشت 2021، نظم متحف إيف سان لوران بمراكش معرضا تكريميا، لفائدة فلينت، ضم أكثر من 200 قطعة من مجموعته الشخصية، تشهد على نظرته لتنوع وثراء التقاليد القروية بالمغرب ودول الساحل، ويعتبر هذا الحدث الفني والثقافي، بمثابة معرض الوداع لهذا الباحث الكبير، نظرا لحجمه، والمواكبة الإعلامية التي رافقته، إضافة إلى الفترة المفصلية التي نظم فيها من حياة صاحبه.

   وذكر كتيب تعريفي، صادر بمناسبة تنظيم هذا المعرض، أن هذا الأخير يشكل “جزءا من علاقة صداقة وإعجاب وتعاون طويلة ما بين مؤسسة حديقة ماجوريل وبيرت فلينت”، مضيفا أنه قد نظم، على شكل قصيدة بصرية واسعة، في احترام تام لمنهج صاحبه، من حيث التركيز على لغة صورية، حيث ترسم جميع المعروضات مشهدا معبرا عن فكره ونظرته لتلك المناطق التي جابها، ومختتما أن المعرض يخبر الشيء الكثير عن فلينت، وعن عالمنا، فيردد صدى المناطق التي زارها، والثقافات الأقرب إلى قلبه، مستمدا قوته، شأنه في ذلك شأن صاحبه، من قدرته على أن يكون في تناغم تام مع عصره.

 

انتماء طلائعي

   ينتمي فلينت إلى مجموعة الدار البيضاء أو ما يسمى بمجموعة 65 الفنية، وهي مجموعة طلائعية، في مجال تأسيس الحداثة التشكيلية المغربية، وإذكاء الوعي البصري، وإغناء حقل الإنتاج الثقافي في مغرب الستينيات من القرن الماضي.

   وكانت هذه المجموعة تضم في عضويتها، إضافة جماع التحف فلينت، الأطر الإدارية والتكوينية بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، من أبرزهم: فريد بلكاهية، ومحمد شبعة، ومحمد المليحي، علاوة على زوجته الناقدة الفنية الإيطالية توني ماريني.

   وقد أحدثت هذه المجموعة ثورة هادئة في المشهد الثقافي المغربي، من خلال إصدار مجلة “الفن المغاربي” باللغة الفرنسية، التي كانت علامة فارقة في المجال الإعلامي، وقتئذ، إذ كانت تنشر نصوصا متميزة تنحو منحى تأريخيا وتأصيليا للتجربة الفنية المغربية، مستفيدة، في ذلك، من التجربة التي راكمها الفن المعاصر في العالم، ومراهنة على أشكال تعبيرية وأساليب تقديمية وتسويقية غير مسبوقة، في مجال تلقي وتمثل الأعمال التشكيلية، كان أهمها معرض جامع الفنا سنة 1969، في الهواء الطلق، من أجل تقريب العمل الفني من الجمهور العريض.

   أكثر من ذلك، لقد أسست هذه المجموعة الفنية الرائدة مسارا تشكيليا أصبح مرجعا للتجارب التشكيلية اللاحقة، على مستوى السند والمواد والألوان، علاوة على الموضوعات ذات الارتباط بالموروث الحضاري العربي الإسلامي.

   ونظرا لدوره التنظيري والتوجيهي داخل هذه المجموعة، يرى فلينت أن جميع الأنشطة الفكرية، التي تشجع التعابير الشعبية، تغدو ذات أهمية هامشية إذا لم تدمجها المدرسة في برامجها، مشيرا أن ولوج الطبقات الشعبية للمؤسسة التعليمية، يجب أن يصاحبه إدماج تعابير من هذا الصنف بالوسط التعليمي، ومؤكدا أن انفتاح المدرسة على جميع التعابير المحلية، ودراسة مكانتها، ضمن مجموع التجليات التعبيرية للمجتمع، مع الانفتاح على مختلف الثقافات العالمية، يعد ضرورة لا محيدة عنها.

   إن هذا الجماع الهولندي للتحف النادرة هو مفرد بصيغة الجمع، اجتمع فيه ما تفرق في غيره، واستطاع أن يترك لنا إرثا ثقافيا وماديا غنيا، ينبغي المحافظة عليه، ودراسته والتعريف به لدى الأجيال الصاعدة، لكونه يبين الارتباطات الموجودة بين الفن الأمازيغي والإفريقي، والجذور التاريخية للمغرب بدول جنوب الصحراء.

* صحفي وباحث من مراكش.

يمكنك ايضا ان تقرأ

بتعليمات سامية من الملك: ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء

كلامكم بتوجيهات سامية من الملك محمد السادس، استقبل