منذ أكثر من عقد من الزمان كان التناوب التوافقي، وكل بما لديهم فرحون. فمنهم من استوزر، ومن استدون، أو استكتب. ومنهم استوظف، ومنهم ينتظر الاستحقاقات المقبلة، ليأخذ حقه في الغنيمة. وكما يحدث عادة، بانصرام عام، وحلول سنة، تتأهب الصحائف لتسجيل ما جرى في ما انصرم، فتتعهد بالتذكير بالأحداث الجليلة والأفعال العظيمة.
كنت أرى أن ما جرى لم يجر، في عهود سابقة. جمدت النضالات، وخمدت النقابات، وخفت المطالب. فحكومة التناوب التوافقي، في الباب. وكل المعارضة التقليدية التي عرفت المنافي والسجون بيدها الحل والعقد، وكل مسوغات المواجهة إنذار بركوب موجة التشويش على التناوب التوافقي. وكان أن استكتبت في جريدة حزب الوزير الأول للكتابة عن السنة المنقضية، وما تحقق فيها.
أذكر أني كتبت مقالة عن سنة «كحلاء زحلاء»، وانتظرت قراءتها على صفحات الجريدة المناضلة، وهي تشخيص موضوعي، في ما كنت أرى، عن حال مغرب أخطأ مناضلوه السكة، وعالم عربي يدخل مرحلة الفوضى، وعن عراق ملتهب… لم تنشر المقالة، فتبين لي أن النقد لا يعجب، ولا الموضوعية تفيد. وأنهم يبحثون عن تزيين العروس، وهم يعرفون أنها عوراء كسيحة؟ ليس هذا هو المهم.. ذاك تاريخ؟
لكن الشاهد، أنني بعد برهة من الزمان، التقاني أحد الزملاء المقربين من الجريدة، وكان مناضلا عنيدا في السبعينيات، فسلم عليّ متوجسا، متخوفا، وسألني عن صحتي وحالتي النفسية، وهل أتابع علاجا مع طبيب نفسي أو روحاني؟ فلما استغربت الأمر، وتعجبت لسؤالاته، وأعلنت له سلامتي العقلية والجسدية، أخبرني أن هناك، في الجريدة، من أعلمه أني مصاب باكتئاب، وأنني أعاني من السوداوية الثقافية التي جعلتني لا أرى إلا الجانب الفارغ من الكأس. ففسرت له موقفي من الكأس، برمته، لأني رأيت فيه شقوقا لا يريدون رؤيتها؟ ولقد رأوها رأي العين.
ما الفرق بين أن تكون متفائلا أو متشائما في زماننا العربي؟ أو متشائلا على غرار أبي نحس إميل حبيبي؟ إذا لم يسلمك التفاؤل إلى أن تكون متشائما، ترى الأشياء، في الحاضر، كما هي، فلن تكون متفائلا حقيقة؟ كما أن التشاؤم إذا لم تعززه رؤية تفاؤلية بالمستقبل، فلن يكون تشاؤما حقيقيا؟ فكيف نقيم الجسر بين التفاؤل والتشاؤم من دون أن نجعل أيا منهما يعوض الآخر ويلغيه. إن كلا منهما حين يؤخذ منفصلا عن الآخر لا يمكن إلا أن يؤدي إلى حجب الرؤية، والتمادي في الإحساس بعدم إمكانية الفعل المحول لأي من الإحساسين إلى نقيضه. وهنا مكمن الفعل الثقافي المطلوب. فما أسهل تبرير الواقع لأنه يؤدي إلى الاستسلام؟ وما أيسر الإجهاز عليه، لأنه يولد العدمية.
الاستسلام تسليم بالواقع، وتعبير عن عدم القدرة على التفكير فيه. كما أن العدمية رفض للواقع ولكن بدون تفكير في إمكانية تغييره بفتح منافذ معقولة ووجيهة. لذلك يلتقيان معا في انتهاج الرؤية السوداوية التي تعطل العقل في أي عمل. وهذا هو السائد في علاقتنا بواقعنا، سواء كنا نتغاضى عن مساوئه أو نضخمها إلى الحد الذي يؤدي بنا إلى الاقتناع باستحالة تغييره.
مرت أعوام على احتلال العراق، وعلى مناهضة الإرهاب والتطرف. نستعين بالأجنبي، تارة، ونرفضه طورا، ونجد أنفسنا في حاجة إليه، فنرحب به لممارسة المزيد من التخريب الذاتي. ونحتفل بعام جديد، وبدل أن يكون ذلك توقفا للقراءة الموضوعية لواقعنا، نجدنا نراوح في المكان، فإذا البلايا تحيط بنا من كل جانب. جاء الربيع العربي، فلم ينتبه الضمير المتحكم في الرقاب والعباد، ولم يكن غير النظامين المغربي والتونسي في مستوى التوقعات، فكان الاستثناء المغربي، وها الدرس التونسي العظيم، يجنب البلد الويلات التي تتخبط فيها اليمن وسوريا وليبيا ومصر.
رفعت يافطة الإرهاب، وبدل مواجهته بالذهاب إلى أصوله التي ولدته، إذ لا دخان بلا نار، تولدت الطائفية التي تغذيه، فصار الصراع بين الشيعة والسنة، وبين الإسلام والمسيحية والعلمانية، وصار الكل يحارب الإرهاب بالإرهاب. وكان التدخل الأمريكي مغذيا لكل أنواع الإرهاب، وها هي إسرائيل تستغل الواقع فتفرض تصوراتها للأشياء ليس ضد الفلسطينيين فحسب، بل ضد العالم أجمع؟
هل من السوداوية التوقف أمام عدد المهجرين وضحايا الحروب التي تخاض في العراق واليمن وليبيا وسوريا؟ غزة الجريحة، لم يتم إعمارها، والدم الفلسطيني ما زال ينزف على ردهات المنابر العالمية؟ ألم تشبع بلدات الشام والعراق بما لحق بها، ويلحق من دمار؟ من يتحدث عن المهجرين والمهجرات بالآلاف من العراقيين والسوريين؟ كيف يكون إحساسك، وأنت ترى عائلات وعددا كبيرا من الشابات السوريات، وبين أيديهن رضع، يفترشن طرقات شارع محمد الخامس، ويطلبن الصدقات؟ كم من الزمان يلزمنا لإعمار البلاد التي نخربها بأيدينا وأيدي الأعداء؟ وكم من العقود يلزم لنسيان ما لحق بالذاكرة الفتية التي فتحت عينيها على الدماء والخراب؟
أسئلة كثيرة، تفرضها علينا أعوام انقضت، وكل سنة تحل. فكيف نحول سنواتنا الكحلاء الزحلاء إلى سنوات بيضاء وردية؟ الجواب: إيقاف كل الحروب التي نخوضها ضد بعضنا. لكن أمريكا وإسرائيل تريداننا دار حرب؟ فأين السوداوية؟
كاتب مغربي
سعيد يقطين