بقلم :محمد الصغير جنجار
يرى كثيرٌ من الملاحظين ممّن لهم معرفة بمغرب الأمس القريب، أن المجتمع المغربي، اليوم، يختلف كثيرا عما كان عليه في العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال. لكنْ وإن تنافسوا في تعداد مظاهر التحول والتحديث التي طالت بنى المجتمع وسلوكيات أفراده، فإنهم قلما يُقِرُّون بأن مغرب القرن الحادي والعشرين هو، بقدر كبير، نتاج الثورة الصامتة التي صنعتها نساؤه. كيف ذلك؟
في مطلع الستينات من القرن الماضي، كانت ساكنة المغرب قرويةً بنسبة %71، بينما كانت الأمية المتفشية في أوساطها لا تقل عن %87. أما معدل خصوبة النساء اللواتي كنَّ يتزوجن في سن مبكرة، فكان يعادل 7,2 أطفال لكل امرأة. الأمر الذي جعل آنذاك من موضوع الانفجار الديمغرافي تحديا رئيسا يؤرق السلطات، ويُنْذِرُ بتوترات مجتمعيةً واقتصاديةً خطيرة. لكن في أواسط السبعينات، وفيما كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ظهرتْ فجأة بارقةُ أمل. حَدَثَ ما يشبه الثورة الثقافية التي تغير الذهنيات والسلوكيات، وتدفع الأفراد لبناء تصورات جديدة عن الجسد والجنس والزواج والأسرة بصفة عامة. إذ برزت مؤشراتُ انتقالٍ ديمغرافي، انخفض بموجبها معدل خصوبة المرأة المغربية إلى 5,5 أطفال في مطلع الثمانينات، ثم تواصل الانخفاض في التسعينات ليصل إلى 3,2، ليبلغ 2,2 طفل لكل امرأة في 2014، تاريخ إنجاز آخر إحصاء سكاني بالمغرب.
وإنْ تردَّدَ الكثيرون قبل أن يقروا بدخول المغرب تجربة الانتقال الديمغرافي، فلأن الأمر ظهر بداية للديمغرافيين والاقتصاديين والاجتماعيين، مفاجئا ولغزًا محيرا. لم يكن أحدٌ ينتظر أن يُصبحَ المغرب إلى جانب لبنان وتونس، في طليعة البلدان العربية التي ستشهد انتقالا ديمغرافيا قبل مصر والجزائر وباقي بلدان المشرق العربي بنحو عشر سنوات، خصوصا وأنه عند الانطلاقة المبكرة لمسلسل التحول الديمغرافي المغربي، كانت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية بعيدة كل البعد عن النضج الذي بلغته في لبنان أو تونس. فطيلة العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال (1960-1980)، ظلت أغلبيةُ الساكنة المغربية قرويةً بالمقارنة مع ما بلغه مسلسل الانتقال الحضري في كل من شمال إفريقيا والمشرق العربي. كما بقيتْ نسب الأمية مرتفعة ومتجاوزة ضِعفَ ما كانت عليه في تونس مثلا. وكذلك الشأن بالنسبة لتعثر مسار تعميم التمدرس، وبالذات في الوسط القروي وبين الفتيات حتى أواسط التسعينات. بل إن الوضع استفحل نتيجة تطبيق برنامج التقويم الهيكلي ما بين 1982 و1992. أما نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي فقد كان ضعيفا ولا يزال كذلك إلى اليوم، بالمقارنة مع البلدان المغاربية. وكذلك الأمر بالنسبة للتشريعات المغربية التي ظلت وفيةً للروح البطريركية التقليدية التي طبعت مدونة الأحوال الشخصية منذ صدورها سنة 1957، والتي لم يَطَلْها تغيير فعلي إلا في مطلع القرن الجديد عند إصدار مدونة الأسرة في سنة 2004.
إذا كانت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية الكبرى المؤثرة في الدينامية الديمغرافية قد بقيت على حالها حتى أواخر القرن العشرين، فكيف يمكننا فهم الانتقال الديمغرافي المبكر الذي حصل في المغرب ابتداءً من أواسط السبعينات؟
يلح الديمغرافيون مثل إمانويل طود ويوسف كورباج على الدور الفعال الذي اضطلع به الرجال، في الحالة المغربية وخلال المراحل الأولى الحرجة للانتقال الديمغرافي، اعتبارا لكونهم استفادوا ولو جزئيا وقبل النساء، من سياسة تعميم التمدرس التي أُقِرَّتْ في الستينات والسبعينات. كما كانوا أيضا سباقين للإقبال على الهجرة اتجاه أوروبا، ولم يُبْدوا مقاومةً أمام اضطرار النساء للعمل المأجور خارج البيت، خصوصا بعد اشتداد ندرة الموارد الاقتصادية في أواسط السبعينات. مما أسهم في ارتفاع نسبة النساء النشطات إلى %29 في نهاية القرن الماضي، وتزايد عدد النساء المعيلات لأسرهن ليبلغ %20 من الأسر المغربية، بينما تسارعت وتيرة ارتفاع الهجرة القروية نحو المدن، بحيث انتقلت نسبة الساكنة المغربية في الوسط الحضري من %29 (1960) إلى %60,3 (2014). وفي أواسط التسعينات تضاعف إيقاع مسلسل تَمَدْرس الفتيات في السِّلكين الابتدائي والثانوي، الأمر الذي يتجلى اليوم من خلال أعداد طلاب الجامعات والمعاهد العليا، حيث صارت أعداد الفتيات تعادل %51,69 من مجموع طلاب التعليم العالي بالمغرب (موسم 2020-2021). كما انعكس ذلك على ارتفاع متوسط سن الفتيات عند الزواج الذي انتقل من 17,5 سنة (1960) إلى 26 سنة (2014)، وعلى انتشار استعمال وسائل منع الحمل العصرية التي تعادل اليوم %70.
وإجمالا يمكن القول بأنه إذا كان الانتقال الديمغرافي المغربي قد انطلق بمبادرةٍ وتحفيزٍ من الأزواج في مرحلته الأولى، فإن المغربيات سرعان ما انخرطن فيه بقوة ومَنَحْنَهُ الاستمرارية والايقاع السريع الذي لازمه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. فقد عرفت الجزائر نفس المسار في الثمانينات، وانخفض معدل خصوبة الجزائريات إلى 2,3 طفل في نهاية القرن الماضي، لكنه سرعان ما عاد للارتفاع ليبلغ 2,9 طفل لكل امرأة في السنوات الأخيرة.
لكي ندرك اليوم أبعاد الثورة الديمغرافية التي أنجزتها نساء المغرب، يتَوَجَّب تقديرُ حجم وطبيعة المخاطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت ستَلْحَق البلاد بساكنة تتعدى 46 مليون نسمة. كما يتوجب أيضا قياس المنافع التي يجنيها المجتمع اليوم من النافذة التي فتحها الانتقال الديمغرافي، وانتشار نموذج الأسرة النووية بالموازاة مع تراجع المنظومة البطريركية التقليدية، والتغير الجذري للبنى الاجتماعية الموروثة عن مغرب الحماية. مما أسهم في بروز الفرد، وولوج النساء للفضاء العام، وارتفاع كثافةِ ديناميةِ التحديث المجتمعي.
إذا كان المغرب مَدينا، إلى حد كبير، لنسائه بالتحولات الأنثروبولوجية العميقة التي عرفها المجتمع في العقود الخمسة الماضية، فلا جدال في كون مستقبله أيضا رهين بمدى إدماجهن في سوق الشغل وفي صناعة القرار وتسريع التطور نحو أفق المناصفة في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.