*حسن إدوعزيز
لقد بقي المسكين محاصرا في الجبل لسنوات عجاف، منذ كان، هو ووالده، يحارب فلول “إيرومين” (الأجانب) ومعاونيهم بين غابات الأرگان المحيطة.
يتذكر أن سنه لم يكن حينئذ يتجاوز العشرين ربيعا، ولم يكن مسلحا سوى ببندقيته التقليدية من صنف “بوحميشة”، التي كانت لا تفارقه، وتربطه بها علاقة حميمية تتجاوز حدود عشقه لـ”لالة زينة” رفيقة حياته…
بدأ يستعيد تفاصيل فقدانه، مع مرور الوقت، كل ماشيته ومتلكاته، حتى أنه لم يعد يملك سوى بندقيته تلك وحصانه الوفي. ويحكي كيف كان يضطر، بين الفينة والأخرى، إلى بيع خرافه..، خروفا خروفا، مقابل كمية قليلة من الشعير، كلما سنحت له الفرصة بزيارة سوق “ثلاث إيگودار”، بمشارف “المنابهة”، السوق الأسبوعي الوحيد بالمنطقة أنذاك.. وكيف كان لا يستطيع، لا هو ولا أفراد عشيرته، التنقل أو النزوح.. بحرية وآمان.. نحو السفوح والمروج المنخفضة بأولاد برحيل، وگسيمة، وأولاد تايمة…
لقد كان يتم حجبهم بأعالي “تلگجونت” و”أوناين”..، يؤكد ” آدّا بلعى”.. ويجبرون على قضاء ليالي شتائهم الطويلة في ظروف صعبة ومزرية، لم ينجُ من قساوتها ما يملكونه من قطعان الماعز والأغنام… بل حتى المنتجات الضرورية من سكر وحبوب وخضر وزيت وتوابل..، مما يدفئون به بطونهم النحيفة، لم تكن لتصل إليهم سوى بمشقة بالغة.. وبأسعار خيالية.. ليستعيد، وهو يكفكف دموعه المنهمرة، بأن قالب سكر واحد كان يُقايض، خلال بعض الفترات، بثلاثة رؤوس من الماعز، وأزيد. مما أدى إلى انخفاض كل مخزونهم من قطعان الماعز، التي تقلصت بسرعة قياسية من أربعمئة رأس وثلاثمئة..، إلى مجرد عشرة رؤوس للكانون الواحد.
تفيض ذكريات “دّا بلعى”، وهو يتأكد اليوم بأن الاحتلال ومعاونيه قد رحلوا.. ربما، لكن حصاره وعشيرته بأعالي الجبل المنسية.. لازال بالتأكيد مستمرا..، ولازالت ذكرياته المؤلمة تقض مضاجعهم كلما هلت ليالي الشتاء الطويل… وتناثر صوف الثلوج.. معلنا إطلالة عنف ماض قريب..
*أستاذ تاريخ