ابريك أمــزون
طــــرفــــة عــيـــن
من الصعب أن تتخيّل أقساما مُـكتظّـة ؛ ومَحافـظ ثقيلة ، ودفاتـر مملوءة ، وأسئلة تائهة، وعقولا حائرة بين الواجبات والحصص.. أو تتخيّل أستاذا (ة) يركض بين المتعلمين(ات) والسبورة ، بين الواجبات والتقاريـر ، يأكل الغذاء بين صفّين ، الابتسامة على وجهه تبدو وكأنها تقول : ” نعم، أنا متعَب ،لكــن لا تقلقــوا …الدرس التالي ينتظرني !” لا يعرف متى يبدأ ولا متى ينتهي …كما أنه من الصعب أن تتخيل تلميذا(ة) يحمل الحروف عل كاهله، أقدامه تتحرك بين الكرسي والطاولة بشكل آلي ، ويحمل السؤال في ذهنه، عيونه تحمل لمعانا من التعب ، وكأن دماغه محرك كهربائي لا يعرف التوقف ، وبطاريته لا تنفُــذ ، يقفــز من درس إلى درس بسرعة لايُصدّقها العقل ويسعى للفهـم وســط الزحــــام والزمــن الطويــل …
لنطرح السؤال في قلب هذا المشهد : هل كثرة الساعات تضمن التعلم أم انها تطفئ الشغف وتثقل العقول ؟ ومنه يبرز الجواب والمطلب الجماعي المراد : تقليص الزمن لا يعني التفريط في الجودة ؛ بل تكييف المقررات ، وتنظيم الحصص، ودعم الأستاذ ، وإعادة هندسة التعلمات . فهل يكون التعديل مجرد تغيير في الجداول ام خطوة استراتيجية نحو تعليم أعمق، نحو فهم أوسع ، نحو استثمار في المهارات ، نحو حياة أكثر اتزانا ؟ لا ، السّر ليس في طول الزمن ، بل في عُمْقِ الاستثمار ، وليس في كثرة الساعات ، بل في جودة اللحظات ،وليس في الكم وحده ، بل في الكيف أيضا .
صانع القرار التربوي ، والأستاذ(ة) المبدع ، وحتى الأسرة المتطلعة إلى مستقبل أبنائها ؛ جميعهـم أمــام تحَــد واحد : الزمن المهني .المورد الثمين الذي لا يعود ؛ صار محور نقاش بين من يرى أن كثافته تعكس الإنتاجية ، ومن يِؤكد أن تقليصه هو المدخل الأمثل لجودة التعلمات . فالساعة الواحدة التي تستثمر بذكاء قد تفوق ساعات متتالية تصرف في الحشو والرتابة . وقلة الوقت قد تصبح فرصة للإبداع والتفكير العميق وتنمية مهارات التلميذ بطريقة لم يكن الزمان الطويل ليحققها .
في مُـبـرّرات تقْـليـص الـــزّمن المهنِــي
يشكل الأستاذ(ة) في المدرسة ركيزة أساسية في العملية التعليمية التعلمية ، إذ لا يقتصر دوره على تدريس الدروس فقط ، بل يشمل متابعة المتعلمين(ات) ، مرافقتهم وتقييم إنجازاتهم ، وتصحيح الاختبارات ، بالإضافة إلى المشاركة في الأنشطة التربوية . وفي ظل تزايد تحديات المدرسة المغربية ، أصبح من الضروري إعادة النظر في ساعات العمل الأسبوعية للأستاذ(ة) لاسيما تخفيضها وتخفيفها مع تكيييف المقرر الدراسي ومراجعة المنهاج بما يضمن جودة التعلمات وفعالية التعليم والممارسات البيداغوجية . وعليه فإن ضرورة التخفيض والتقليص تكمُن مبرّراته الرئيســة من منظورنا في عدة نقط :
*المُبـــرّرات التـــربــويّــة :
1 ـ تحسين جودة التعلمات ورفع جودة التدريس ؛
2 ـ الوقاية من الإرهــاق المهنــي ؛
3 ـ التنمية المهنية للأستاذ(ة) ؛
4 ـ تمكين الدعم الفردي للتلاميذ ؛
5 ـ تعزيز الإبداع التربوي ؛
6 ـ الاستجابة لمتطلبات العصر؛
7 ـ مطابقة المعايير الدولية .
تخفيض ساعات العمل يمثل ضرورة تربوية ملحة ، تتجاوز الاعتبارات الإدارية لتصل إلى جوهر المهمة التعليمية ، تحسين جودة التعلمات ، وبناء جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل ، وإرساء ثقافة مدرسية قائمة على الجودة والابتكار فالاستثمار في الأستاذ هو استثمار في التلاميذ وفي مستقبل الوطن .
*المُبــرّرات الـقانــونيّــة :
الأستاذ في المدرسة موظف عمومي يخضع لقوانين ، من هذه الزاوية يمكن تبرير تخفيض ساعات العمل :
1ـ حق الأستاذ(ة) في ظروف مناسبة لمزاولة المهنة ؛
2 ـ التوازن بين الواجبات والحقوق ؛
3 ـ المرجعية القانونية الدولية والمحلية ؛
4 ـ الحفاظ على الجودة والوفاء للالتزامات المهنية ؛
5 ـ ضمان الحق في التطوير المهني .
تخفيض ساعات العمل ليس مجرد مطلب إداري ، بل ضرورة قانونية تضمن للأستاذ(ة) بيئة عمل آمنة وصحية ومتوازنة ،وهو ما يبرر تقليل الضغط الناتج عن كثرة الحصص وتقليدانيتها وكثافة مضامينها ، وهذا يشكل فرصة لإعادة هندسة التعلمات وتحقيق التوازن بين الكم والكيف في المرفق الحيوي العام الذي نحن بصدده وهو المدرسة .
تـخـفيـض ساعات العمــل وتكيِــيـــــف المقـرر الـدراسي
مع تخفيض ساعات العمل ، يصبح تكييف المقرر الدراسي راهنا ضرورة بما يتلاءم مع الواقع الجديد للأساتذة والتلاميذ.
1) تكييف المقرر وفق الوقت المتاح : يمكن إعادة توزيع الدروس والأنشطة مع التركيز على الأهداف الأساسية والمهارات الجوهرية للتلاميذ. هذا التكيف يضمن ان كل ساعة تدريس تستثمر في تعلم فعال ، بدل الاكتفاء بتغطية الكم الدراسي دون عمق .
2) تعزيز التعلم النشيط والمستمر : مع تخفيض ساعات التدريس يصبح من الضروري اعتماد أساليب تدريس مبتكرة مثل التعلم بالمشاريع ، والتعلم التعاوني وليس التنافسي كما هو سائد ،والأنشطة التطبيقية التي تحقق أهداف المقرر بسرعة وفعالية.
3) توزيع التدريس بين المهام والمتابعة الفردية : تخفيض الساعات يسمح للأستاذ(ة) بموازنة الوقت بين التدريس الجماعي والمتابعة الفردية للمتعلمين(ات) الذين يحتاجون للدعم الإضافي .وهنا يصبح تكييف المقرر أداة لتخصيص الدعم دون الضغط على الأستاذ(ة) أوالمتعلم (ة) .
4) مواكبة المستجدات الإصلاحية : تكييف المقرر يتماشى والمستجدات التعليمية التي تقوم على الكفاءة والمهارات وليس حفظ وشحن المعلومات . وهذا سيتيح للمارسين البيداغوجيين تقديم تعلمات بجودة عالية وسيضمن حق التلاميذ في تعلم فعّال .
تـخـفيـض سـاعـات العمــل وســــؤال الأثـــر
*على الأستـــاذ(ة) : يتيح تقليص الزمن المهني فرصة تعزيز الابتكار في أساليب التدريس ، فضلا عن تجديد الطاقة والتكوين الذاتي ، إلا أن ضغط إنجاز المقررات في وقت أقل يمثل تحديا إذا لم تُراجع هيكلــة المحتويات والأنشطة بشكـل مدروس .
*على المتعـلـــم (ة) : تخفيض ساعات العمل يعود بالنفع على المتعلم بشكل مباشر، حيث يزداد التركيز والانتباه ، وتتقلص نسبيا فجوة التحصيل، كما يزيد تقليص الساعات من تفاعل المتعلمين (ات) ويعزز قدراتهم على التعلم الذاتي ، ويمكنهم من تطوير مهارات التفكير والابتكار، وتجنب شعور الملل في بيئة صفية إيجابية أكثر هدوءا وتنظيما ..
*على الأسْـــرَة : يتيح تقليص الزمن فرصا أكبر للتفاعل الأسري والأنشطة التربوية خارج المدرسة. مما يعزز تقليل التوتر الأسري وانخفاض الضغط النفيسي والجسدي، ويخلق جوا أسريا مريحا لدعم التعلمات في المنزل .
*على صانـع القـرار التـربوي ومـديـريـة المناهـج : تخفيض ساعات العمل للأستاذ(ة) له انعكاسات مباشرة على صانع القرار التربوي ومديرية المناهج ، فمن زاوية الإدارة ، تقليص ساعات العمل الأسبوعية يفرض إعادة النظر في توزيع المحتوى الدراسي ، وتصميم البرامج الدراسية ، وتنظيم الإيقاعات المدرسية بما يضمن تغطية الأهداف دون الإخلال بمحطات التقييم والجودة. ومن زاوية أخرى ، تجد مديرية المناهج نفسها أمام فرصة لإعادة تركيز المقـرر على الكفايات الجوهرية والمهارات الأساسية . مع إدراج أساليب تعليمية مبتكرة تتلاءم مع زمن التعلم الجديد. في أفق الانتقال بسلاسة نحو نموذج تعليمي تعلمي قائم على الكيف لا الكــــم . هذا التغيير يتيح مرونة أكبر في التخطيط المدرسي ، مع إمكانية تقيم أثـــر البرامج التعليمية بشكل أدَقّ. بما يعزز فعالية القرارات التربوية على جميع المستويات ، وينعكس إيجابا على جـودة التعليــم وتعليــم الجـودة في آن !
على سبيل الختم …نحو فصول دراسية بلا إرهـــاق
في نهاية المطاف تخفيض ساعات العمل ليس مُجرّدَ رقم يُكتب على الورق ، بل هو نَبْض جديد في قلب المدرسة . يربط بين الأستاذ(ة) ، والمتعلم(ة)، والأسرة ، وصانع القرار في وِِئـــام مُتَجدّد . تخفيض ساعات العمل وتقليص الزمن المهني قد يقلل من الشعور بالاحتراق الوظيفي مما يحافظ على ولاء الجميع للمدرسة.
ساعــات قليلة قد تحمل في طياتها ما لاتحـمله ساعات كثيرة من إرهاق متواصل( تعب مستمر، صعوبة التركيز ،تراجع المردودية، قلق واكتئاب…) وتأثيره السلبي على جودة الحياة والأداء اليومي .
ســاعـــات قليلة تمنح الأستاذ(ة) وقتا للإبداع وللتفكير وللتخطيط ودراسة الحالات والتكوين الذاتي وتحسين الأداء البيداغوجي …، ويتيح للمتعلم مساحة للتفاعل والمشاركة داخل الحصص والاستيعاب ، وتحسين الذاكرة وزيادة القدرة على التركيز والانتباه ، وتعزيز الصفاء الذهني وتشجيع الحفاظ على حياة صحية تسهل الحفاظ على ممارسة الرياضة والغذاء المتوازن …وتعطي للأسرة فرصة للدفء والارتباط بتعزيز التوازن بين الحياة والعمل وسيادة الإيجابيات في البيئة المنزلية وبيئة أسرية أكثر صحة وتناغما…
إنها دعوة للتعلم بعمق ،لا بالسرعة ، للتركيز على الكيف قبل الكم ، ولإعادة صياغة الإيقاعات المدرسية بما ينسجم مع إيقاع حياة الطفل والأستاذ(ة) معـــا . وفي هذا التوازن الجديد ، يُفتَح الباب أمام زمن التعلّم الحقيقي ، زمن التأمّل والاكتشاف ، زمن الفهم والإبداع ، حيث يصبح الفصل مكانا لا تُحسب فيه كل دقيقة ، بل تُـقـــــاس فيه أثــــر كل لحظة على عقــل ووجدان المتعلم وعلى كل الأطراف المشاركة في العملية التعليمية .
(*) أستــــاذ مهتــم بالشأن البيداغوجي ، مديرية المضيق الفنيدق