حين يتحوّل الإيمان إلى سلاح : التطرّف الديني وصناعة العداء بين اليهود والمسلمين والمسيحيين

حين يتحوّل الإيمان إلى سلاح : التطرّف الديني وصناعة العداء بين اليهود والمسلمين والمسيحيين

- ‎فيرأي
1011
التعليقات على حين يتحوّل الإيمان إلى سلاح : التطرّف الديني وصناعة العداء بين اليهود والمسلمين والمسيحيين مغلقة

بقلم: ذ. محمد بوفتاس

ليس السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن التعايش مع اليهود؟ فهذا السؤال، في جوهره، يحمل قدرًا من التبسيط المضلل، وكأنه يفترض أن المشكلة كامنة في اليهودية كدين أو في اليهود كجماعة بشرية. التاريخ نفسه يدحض هذا الافتراض. اليهود عاشوا قرونًا في مدن إسلامية ومسيحية، في بغداد وقرطبة وفاس وإسطنبول، وشاركوا غيرهم الخبز والخوف والأمل. لم يكونوا غرباء عن النسيج الاجتماعي، ولم تكن ديانتهم عائقًا أمام العيش المشترك. السؤال الأكثر صدقًا وإزعاجًا هو: ماذا يحدث حين يُستدعى الله لتبرير الظلم؟ وحين تتحول العقيدة إلى مشروع سياسي مسلح لا يعترف إلا بذاته؟
هنا يبدأ الانحراف الكبير، حين يُنقل الصراع من مجال السياسة، حيث يمكن المساومة والحلول المرحلية، إلى مجال الإيمان المطلق، حيث يصبح كل اختلاف كفرًا وكل نقد عداءً لله. في هذا التحول الخطير، لا تعود الأرض أرضًا، بل “وعدًا إلهيًا”، ولا يعود الخصم خصمًا، بل “عدوًا مقدسًا”، ولا يعود الدم دمًا، بل “قربانًا”. وهكذا يُغلق باب العقل، لأن الله – في خطاب المتطرف – قال كلمته النهائية، ومن يعارضها يعارض السماء نفسها.
التطرف الديني، في جوهره، ليس فائض إيمان، بل فقر أخلاقي. إنه لحظة انهيار الدين كمنظومة قيم، وصعوده كأداة سلطة. عند اليهود والمسلمين والمسيحيين، تكررت الظاهرة نفسها بأسماء مختلفة: قراءة واحدة، مقدسة، مغلقة، تلغي كل تأويل آخر، وتحوّل النص إلى سكين. لا يعود الدين مجالًا للسؤال، بل جوابًا جاهزًا على كل شيء، حتى على القتل.
في التجربة الإسرائيلية، اتخذ هذا التطرف شكلًا أكثر تنظيمًا وخطورة. فقد نجح التيار الديني القومي في دمج اللاهوت بالقومية، وتحويل التوراة إلى وثيقة سياسية. “أرض الميعاد” لم تعد رمزًا روحيًا، بل خريطة عسكرية. الفلسطيني لم يعد إنسانًا له تاريخ وذاكرة وحقوق، بل مشكلة لاهوتية يجب حلّها. هذا التأويل لا يكتفي بتبرير الاحتلال، بل يمنحه قداسة تجعل مقاومته جريمة دينية. وهنا تكمن المأساة: حين يصبح الظلم واجبًا، والسلام خطيئة. لكن التطرف لا يسكن ضفة واحدة.
في العالم الإسلامي، وخصوصًا في لحظات الهزيمة والانسداد التاريخي، وُلد خطاب ديني مأزوم، اختار الطريق الأسهل: تحويل الصراع السياسي المعقد إلى مواجهة دينية مطلقة. بدل تفكيك المشروع الصهيوني كحركة استعمارية حديثة، جرى اختزاله في “اليهود” ككتلة واحدة. اختفى الإنسان، وحضر التعميم. استُدعيت نصوص من سياقاتها، وقُطعت عن شروطها التاريخية، وتحولت إلى وقود للغضب. والنتيجة كانت كارثية: خطاب يريح العاطفة، لكنه يدمّر المعنى، ويقدّم للعدو أفضل هدية: صراعًا دينيًا يبرّر كل عنف.
وحين يصبح الصراع “حرب أديان”، يخسر الفلسطيني أكثر مما يخسر عدوه. يخسر صورته كضحية ظلم تاريخي، ويُدفع قسرًا إلى موقع “المتطرف”، حتى حين يكون بريئًا من التطرف. المتطرفون، في هذه اللحظة، يتغذّون من بعضهم: تطرف يولّد تطرفًا، والكراهية تصبح لغة مشتركة بين أعداء يفترض أنهم نقيض بعضهم.
أما المسيحية المتطرفة، خصوصًا في صيغتها الإنجيلية الصهيونية، فقد قدّمت نموذجًا فاضحًا لانفصال الدين عن الأخلاق. دعم غير مشروط لإسرائيل، لا لأن إسرائيل عادلة، بل لأنها – في هذا اللاهوت – أداة لتحقيق نبوءة. الفلسطيني هنا لا يُرى أصلًا، لأنه لا يخدم السيناريو. معاناته ليست مأساة، بل تفصيل مزعج. وهكذا يُعاد إنتاج منطق قديم: الله يحتاج إلى الظلم كي يحقق وعده، وكأن العدالة عبء على السماء.
ما يجمع كل هذه القراءات المتطرفة ليس الإيمان، بل الخوف. الخوف من السؤال، من الشك، من الاعتراف بالآخر. المتطرف لا يحتمل التعقيد، لأنه يهدد يقينه. لذلك يختار عالمًا بسيطًا، أبيض وأسود، معنا أو ضدنا، مؤمن أو كافر. وفي هذا العالم، لا مكان للإنسان كقيمة، بل كرمز أو هدف.
التعايش الحقيقي لا يمكن أن يولد في ظل هذا المنطق. التعايش يبدأ حين نجرؤ على نزع القداسة عن الظلم، وعلى إعادة الدين إلى مكانه الطبيعي: مصدرًا للأخلاق لا أداة للهيمنة. يبدأ حين نفصل بين اليهودية كدين، والصهيونية كمشروع سياسي، بين الإسلام كرسالة، والتطرف كتشويه، بين المسيحية كدعوة للمحبة، ولاهوت يستخدمها لتبرير القتل البطيء.
لقد أثبت التاريخ أن الأديان تستطيع التعايش، لكن الأيديولوجيات المقدسة لا تفعل. المشكلة ليست في الله، بل في الذين يتكلمون باسمه أكثر مما يصغون إلى وصاياه. وحين ندرك أن الصراع، في جوهره، صراع على حقوق ملموسة لا على وعود غيبية، يصبح السلام ممكنًا، لا بوصفه حلمًا ساذجًا، بل خيارًا عقلانيًا.
الخلاصة التي لا يريد المتطرفون سماعها هي أن الله لا يحتاج إلى محتلّ، ولا إلى انتحاري، ولا إلى نبوءة تتحقق على جثث الأبرياء. المشكلة ليست في اليهودية ولا في الإسلام ولا في المسيحية، بل في اللحظة التي يتحالف فيها النص مع السلاح، والعقيدة مع الدبابة، والإيمان مع السلطة. حين نفكك هذا التحالف، ونُعيد الاعتبار للإنسان كغاية لا كوسيلة، يصبح السلام ليس تنازلًا، بل انتصارًا للعقل على الجنون، وللعدالة على الأسطورة، وللحياة على عبادة الموت.

You may also like

مراكش.انهيار سقف منزل بحي الفخارة بالنخيل الجنوبي صباح اليوم دون إصابات

خولة العدراوي شهد حي الفخارة بمنطقة النخيل الجنوبي،