ذ . ابــريك أمــزون(*)
منذ عقود ، والكلام عن إصلاح منظومة التربية والتكوين يخترق اهتمامات الفاعلين في السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة والإعلام والتنمية …ويظل السؤال الجوهري يطرح بإلحاح : لماذا تسير المدرسة العمومية المغربية بسرعتين؟ فبالرغم من المشاريع والبرامج والشعارات الإصلاحية المقترحة والمجهودات المبذولة لاتزال الفوارق قائمة بين المدارس والمدارس في المدن وبين نظيراتها في القرى والجبال؛ بين مدارس تمتلك شروط الجودة أو بعضها على الأقل ، وأخرى تفتقر إلى أبســــط المقومات !! هذا الازدواج البنيوي والبيداغوجي ينتج واقعا تعليميا وبيداغوجيا غير متوازن ، ويضعف بشكل واضح العدالة والإنصاف التربوي .
*مـدرسـة السرعـتـيــن … أو ثـلاث !
صباح كل يوم تفتح المدارس المغربية أبوابها على عالم مزدوج السرعة ،إذ تسير عجلة التعلم بسرعتين أو ثلاث ، لكن ليست كل السرعات متساوية، ولا كل المسارات والأوساط متكافئة، هناك مدارس تزهو بالموارد والبُنيات ، وأخرى تعاني الاكتظاظ ونقص الوسائل والأدوات، هناك أطـــر بقدراتهم يصنعون فرقا بفضل التجارب والخبرات ، وأطــــر بقدراتهم ومؤهلاتهم يُــتْـركون وحدهم في مواجهة الفوضى والفوارق والتحديات، هناك تلاميذ ينعمون بفرص متكافئة ومسارات، وآخرون يُــركنون إلى الهــامــش يحاصرهم التفاوت والخسارات…
هذا الواقع يكشف غيـــــاب عدالة وإنصاف تربوي شامل(البيداغوجي /الاجتماعي/المجالي)، ويبرز هشــاشة السياسات والموارد وسوء التدبير، والحلول ليست رفاهية ؛ بل ضرورة عاجلة : سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيداغوجيا ، لتصبح المدرسة فضاء موحدا ، يسمح بأن يسير الكل على سرعة واحدة ، وبرؤية واحدة نحو المعرفــة والإنصــاف والنجـــــاح.
*سُــرعـتان في البنيـة والمـوارد :
في المغرب توجد مدرستان داخل المدرسة العمومية الواحدة ؛ مدرسة حضرية متقدمة تتوفر على بنية تحتية مادية ورقمية في تجهيزاتها ، ومدرسة هامشية تعاني من نقص التجهيزات وبعد الخدمات والأقسام المشتركة …هذا التفاوت الصارخ يترجــم إلى اختلاف في وثيرة التعلم وجودته ، حيث يصعب على التلميذ في ظل هذه الفجوة أن يحقق نفس النتائج التي يحققها زميله في بيئة تعليمية مجهزة ومحفزة …
*سرعتان في التكوين والممارسة :
التفاوت لا يظهر فقط في الفضاءات التعليمية ؛ بل تمتد الفجوة الى تأهيل المدرسين والممارسة الصفية . فبين أطر تلقت تكوينا أساسا وذاتيا في المجالات البيداغوجية الحديثة ، وأخرى لم تواكب التحولات الراهنة ، تتشكل سرعات مختلفة في الأداء والمردودية وتتسع هذه الفجوة بفعل الدافعية وظروف مزاولة المهنة والواقع الاجتماعي مما يكرس التباين في جودة الممارسة الصفية ومخرجات التدخلات البيداغوجية ويجعل من الصعب تحقيق انسجام تربوي وبيداغوجي وطني موحد …
*ســـرعتان في التحفيــز والترقيــــات:
في المدرسة المغربية ،تسير عجلة التحفيز والترقيات للموارد البشرية بسرعتين متناقضتين(وأخرى ريعية لا مجال لتفصيلها في هذا المقال) ، هناك أطر تحصل على تقدير مستمر وفرص للترقية ، فيزداد دخلهم وحماسهم وربما “يثمر” عطاؤهم. فيما يظل آخرون عالقين بلا تقدير أو فرص، فتضعف دوافعهم ويشعرون بالحرمان والضياع أمام التحديات . هذا الاختلاف والتمييز ينعكس مباشرة على جودة التعلم ويزيد من فجوة الإنجاز بين المؤسسات والفصول الدراسية. ونحن نرى أن التحفيز العادل والاعتراف بالجهود هو المفتاح الوحيد لتوحيد السرعات والتفاني داخل المدرسة وخارجها.
*سرعتان في الفرص والمسارات :
المدرسة العمومية المغربية لا تمنح جميع المتعلمين فرصا متكافئة للنجاح ، فمن يستفيد من الدعم الأســـــري ، والتكنولوجي ، واللغوي يواصل تعليمه بثقة تستثمر في التعلم بنجاح ؛ بينما يتعثـــر آخــرون بسبب غياب الرعاية أو ضعفها في أحسن الأحوال ،الفقر، وضعف اللغات ، مما يؤدي الى الرسوب والتكرار. وهكذا يتكون مســاران متوازيان : أحدهما يقود الى الارتقاء والنجاح ، والآخر يقود إلى الانسحاب المبكر والهدر المدرسي . حقا إنها سرعة مزدوجة !
*السبب العميق : غياب العدالة والإنصاف التربوي
يتفق جل المهتمين أفرادا ومؤسسات بعد تشخيص واقع المنظومة التربوية أن جذر المشكلة ليس فقط في التمويل والبنية ، بل يبقى التفاوت مرتبط أساسا بــغــياب رؤية شاملة للعدالة والانصاف التربوي، وغياب التنسيق والالتقائية بين عدة قطاعات معنية بالإصلاح التربوي، فالمدرسة المغربية تسيـــر بسرعتين لأنها لم توفق بعد في توحيد معايير الجودة ، ومعايير التقويم، ولا في ضمان تكافؤ الفرص بين الجهات ، ولا في تحقيق التوازن بين الإصلاحات الكبرى والممارسات اليومية داخل الأقسام الدراسية .
*على أرض المدرسة : مسارات لإصلاح ملموس
عندما نتأمـــل الفجــوة والتفاوت داخل المدارس، ندرك أن الحلول لا تكمن في إجراء واحد ، بل في مسارات متعددة تتنـــاول جميع أبعاد المنظومة وتتكامل لتصنع الفرق :
ـــ السياسة والتعليم: العدالة تبدأ من الإرادة والقرار؛ ونقصد بلك توطيد مبدأ تكافؤ الفرص في السياسات التعليمية الوطنية ، وضمان التوزيع العادل للموارد بين الجهات والمدن والقرى ، وتعزيز الحكامة والافتحاص والمحاسبة ..
ـــ الاقتصاد والدعم: الاستثمار في المدرسة أولا؛ فالموارد المالية ليست رفاهية بل ضرورة ، فالمدارس تحتاج إلى تجهيزات ، والأساتذة يحتاجون إلى تحيين تسوية وضعيتهم المادية وصرف مستحقاتهم،ودعم الفئات الهشة بالمنح والأطعام ، وتشجيع الشراكات …
ـــ المجتمع والتربية: إشراك الجميع من أجل نجاح الجميع؛ الأسرة والجمعيا ت والمجتمع المحلي هم شركاء المدرسة بامتياز، فالتلميذ في بيئة نفسية واجتماعية داعمة يحقق أفضل النتائج ، وإشراك هذه المكونات يجعل المدرسة أكثر قربا من الواقع، ويحد نسبيا من تأثير الفوارق على التحصيل..
ـــ الثقافـــة والإبـــداع: المدرسة ليست مجرد ساحة وقاعات ، بل فضاء ثقافي ، هوية وانتماء ، واحترام التنوع الثقافي واللغوي، وربط التعلمات بالأنشطة الفنية والعلمية يفتح المجال للإبداع ويجعل المدرسة بيئة جــاذبــة للتعلم ،وتحفز المتعلم(ة) والأستاذ(ة) على الإنجاز والتميز …
ـــ حضور البيداغوجيا فكرا وممارسة: ويكون ذلك من خلال تغيير التمثلات المهنية للممارسين ، وتطوير تكوينهم ومصاحبتهم ومواكبتهم عن قرب وبعد، وتخفيف المنهاج في الشكل والمضمـون والزمن ، وتقوية التـعـلمات الأساس ، وتوفير الدعم المنتظم ،وتنويع أساليب التقويم واعتماد نظام منصف وعادل للتنقيط ،وتعزيز تعلم اللغات ، وتكييف التعـلمات مع ايقاعات المتعلم(ة) ، وإشراك التلاميذ في الحياة الصفية والمدرسية …
تأسيسا على ما تقدم؛ بناء مدرسة منصفة لا يقوم على القرارات وحدها، بل على إرادة جماعية توافقية تشمل كل أطياف المجتمع وتعترف صادقة أن التعليم حجر الزاوية في أي نموذج تنموي . وعندما تتكامل الجهود بين السياسات، والاستثمارات الموجهة، والوعي المجتمعي، والبيداغوجيا المتجددة، يمكن للمدرس المغربية أن تتحول من فضاء للفوارق إلى فضاء للارتقاء.
*أسئلة من أعماق الممارسة البيداغوجية
المدرسة المغربية تسير بسرعتين …لكن ؛ من يضمن أن يتحرك الجميع على سرعة واحدة نحو العدالة والإنصاف؟ هل تكفي السياسات الموضوعة أم تحتاج إلى إرادة حقيقية ومتابعة دقيقة؟ هل يكفي الاستثمار في البنيات والمعدات ، أم يجــب إعادة التفكير في جودة التكوين وفعالية التدريس وأساليب التعلم وصــدق التقويم؟ ثم مــاذا عن المتعلم(ة) : هل نهيئه لمستقبل يتغير؟ أم نتـركه رهينة أساليب لا تواكب العصر؟ هل نُراجع هيكلة الزمن المدرسي بما يتماشى مع قدرات المتعلم(ة)، أم نُـــواصل اعتماد إيقاعات متعَـبة تنتِــج الهدر بدل التعلــم؟ هل نحن مستعدون لصنع مدرسة تجمع بين الرؤية والموارد والمهارة والإرادة والقرار؟ أم ستبقى السرعتان علامة على غياب العدالة والإنصاف؟
المدرسة المغربية اليوم قضية الجميع أفرادا وجماعات ومؤسسات ، تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إجراءات توافقية شجاعة، رؤى مبتكرة، ومساءلة حقيقية…فهل يتحرك صناع القرار قبل أن يفوت الأوان؟
أسئلة حارقة تطرحها نخبة الفكر والتربية والبيداغوجيا لا لتزيد المشهد تعقيدا، بل لتوقظ الحاجة إلى قرار شجاع وإصلاح نابع من الميدان …
(*) أستاذ مهتم بالشأن البيداغوجي – مديرية المضيق الفنيدق