بقلم: نورالدين بازين
وقّعت مجموعة جماعات “مراكش للنقل”، الجهة المفوِّضة لتنظيم النقل العمومي، اتفاقية تدبير مفوّض تاريخية مع شركة “سوبراتور” (SUPRATOURS) كطرف مفوَّض إليه رئيسي، وذلك بعد مسطرة طلب عروض نظمت وفق القانون 54.05. وتشمل الاتفاقية أيضاً المكتب الوطني للسكك الحديدية كمساهم أساسي. تهدف هذه الشراكة إلى إدارة وتشغيل شبكة النقل الحضري بواسطة الحافلات العادية وحافلات النقل السريع (BHNS) داخل النفوذ الترابي للجهة.
تُعتبر اتفاقية التدبير المُفَوَّض التي أبرمتها مجموعة جماعات “مراكش للنقل” مؤخراً مع شركة “سوبراتور” والمكتب الوطني للسكك الحديدية نقلة تحويلية في نموذج حوكمة النقل الحضري بالمدينة. فهذه الشراكة الاستراتيجية، التي تمت عبر مسطرة منافسة شفافة وفق الإطار القانوني الوطني، لا تهدف فقط إلى تحسين الخدمة التشغيلية، بل تُعيد تعريف الأدوار والعلاقات بين مكونات المنظومة بأسلوب علمي متقدم.
فبدلاً من النموذج التقليدي الذي تتداخل فيه الأدوار، جاءت الاتفاقية لترسي تصوراً ثلاثي الأبعاد يقوم على فصل الوظائف مع تحقيق التكامل بينها: فمجموعة الجماعات تتراجع عن الدور التشغيلي المباشر لتركز على التنظيم والرقابة الاستراتيجية وحماية المصلحة العامة، بينما تنتقل مهمة التمويل والاستثمار في البنى التحتية والتجهيزات الحديثة إلى شركة التنمية المحلية للنقل التي تعمل كذراع تقني ومالي للجهة، ليتركّز دور “سوبراتور” في الجوهر التشغيلي والإداري اليومي، مع تحمّل كامل للمخاطر التجارية والالتزام بمعايير الجودة العالية.
هذا التوزيع الدقيق يخلق توازناً مؤسسياً يضمن الكفاءة والمساءلة. فمن جهة، تلتزم الشركة المُشغّلة بمهام شاملة تبدأ من التخطيط الأمثل للشبكة وتدبير الموارد البشرية وصيانة الأسطول، وصولاً إلى تحسين تجربة المستخدم عبر تطوير أنظمة الدفع وخدمة الزبائن ومعالجة الشكايات. ومن جهة أخرى، تضمن الجهة المفوّضة وشركة التنمية المحلية توفير البيئة التقنية والمالية الداعمة من خلال الاستثمار في حافلات النقل السريع (BHNS) والأنظمة الذكية للتذاكر والتتبع.
كما أن الاتفاقية وضعت أطراً صارمة للحوكمة تضمن سلاسة التنفيذ، منها تراتبية واضحة للوثائق التعاقدية تمنع التعارض، وآليات مالية محكمة تحدّد مسارات التحويلات والمدفوعات بدقة، ولقاءات تنسيقية ربع سنوية بين الأطراف الثلاثة لمتابعة الأداء، كل ذلك في إطار التزام راسخ بمبادئ الخدمة العمومية من مساواة واستمرارية وتطوير وشمولية.
لعل من أبرز مظاهر النضج القانوني في هذه الاتفاقية هو التنصيص الصريح على تنازل الطرف الملتزم عن اللجوء إلى آليات التحكيم الدولية، مما يحصر أي نزاع محتمل في الإطار الوطني والقانون المغربي، ويعزز السيادة القانونية ويحمي المرفق العام من النزاعات العابرة للحدود. هذا البند، إلى جانب الالتزامات الصارمة بالسرية وحماية البيانات، يعكس عمق الرؤية الاستراتيجية التي صيغت بها الوثيقة.
على مدى العشر سنوات القادمة، من المتوقع أن تثمر هذه الشراكة عن تحوّل ملموس في المشهد الحضري لمراكش، ليس فقط عبر أسطول أنظف وأكثر حداثة وانتظاماً في الرحلات، بل أيضاً من خلال خدمة متطورة تواكب النمو العمراني وتدعم التنمية المستدامة وتُعزّز جاذبية المدينة كوجهة عالمية.
هذه الاتفاقية، في جوهرها، هي أكثر من عقد خدمات؛ إنها بمثابة عقد اجتماعي جديد يضع النقل العمومي في قلب مشروع المدينة المستقبلية، ويقدّم نموذجاً وطنياً رائداً في التدبير التعاقدي الذي يجمع بين الكفاءة التقنية والالتزام العمومي والرؤية الاستراتيجية الطموحة.