طارق أعراب
تؤكد المناقشات الأخيرة داخل مجلس النواب أن معركة إصلاح التعليم في المغرب لم تعد تقنية ولا تنظيمية فقط، بل تحولت إلى مواجهة سياسية وفكرية حول سؤال جوهرية: هل تسير المنظومة نحو تعزيز المدرسة العمومية أم نحو مزيد من تفويض أدوارها للقطاع الخاص؟ هذا ما كشفته بوضوح التعديلات المثارة خلال دراسة مشروع قانون التعليم المدرسي، والتي أعادت إلى الواجهة قضية “جشع” عدد من مؤسسات التعليم الخصوصي ومخاوف التخلي التدريجي عن الخدمة العمومية.
التعديلات التي تقدمت بها المعارضة، خاصة من الفريق الاشتراكي والحركي وفدرالية اليسار، حملت خطاباً واحداً مفاده أن القطاع الخاص في التعليم لم يعد مجرد فاعل مكمل، بل تحول بالنسبة للبعض إلى “مقاولة ربحية” تستغل غياب إطار قانوني صارم. لذلك دعا النواب إلى تسقيف الأرباح، وتوجيه جزء من مداخيل المؤسسات الخاصة نحو دعم المدارس العمومية بالمناطق الهشة، مؤكدين أن التعليم لا يمكن التعامل معه بمنطق السوق.
وزير التربية الوطنية محمد سعد برادة اعتبر أن هذه المقترحات تخالف قواعد المنافسة وقوانينها، وأن أي تحديد إداري لنسب الأرباح غير مقبول قانونياً. موقف أثار انتقادات واسعة داخل القاعة، حيث شدد نواب المعارضة على أن التعليم ليس سلعة كي يخضع كلياً لمنطق العرض والطلب، وأن الطفل ليس منتوجاً تجارياً، بل مواطن المستقبل الذي لا يجب أن يُربط مصيره بميزان الأرباح والخسائر.
النقاش امتد إلى المادة 40 التي رأت فيها فاطمة التامني “تهديداً للمرفق العمومي” لأنها تمنح القطاع الخاص موقعاً موازياً في المنظومة التربوية. وقدّمت تعديلاً يعتبر التعليم الخصوصي مجرد مكمل اختياري لا يمكن أن يحل محل المدرسة العمومية، مؤكدة أن حماية مجانية وجودة التعليم العمومي تظل مسؤولية الدولة قبل أي طرف آخر. الوزير رفض بدوره التعديل لعدم انسجامه مع مقتضيات القانون الإطار، لكن التامني ردت بأن البرلمان لا يجب أن يبقى “مقيداً” بالقانون الإطار في قضايا استراتيجية تمس مستقبل البلاد.
النقاش الساخن شمل أيضاً رسوم التسجيل والتأمين والواجبات الشهرية في التعليم الخاص. فقد طالب سعيد بعزيز بكشف هذه المعطيات ومنح الأكاديميات الجهوية دوراً استشارياً على الأقل، بدعوى أن بعض المؤسسات تفرض “أرقاماً خيالية” دون أي مراقبة حقيقية، بينما تُهمل أجور المدرسين. الوزير رفض التعديل مرة أخرى بحجة التنافسية.
في المقابل، مرّ مشروع القانون بالأغلبية داخل الجلسة العامة، حيث وافق عليه 90 نائباً مقابل 38 معترضاً، ليصبح إطاراً جديداً موجهاً لتنظيم التعليم المدرسي خلال السنوات المقبلة. وقد قدم الوزير عرضاً يشدد فيه على أن القانون يستند إلى الدستور، والخطب الملكية، والرؤية الاستراتيجية 2015-2030، ويهدف إلى بناء مدرسة جديدة أكثر عدلاً وجودة وانفتاحاً.
إلا أن جوهر النقاش الذي طبع جلسات الدراسة يظل أعمق من مجرد مواد تقنية. فالخلاف يعكس سؤالاً وطنياً مؤرقاً: أي نموذج تعليمي يريده المغرب؟ هل هو نموذج يوازن بين العام والخاص في إطار شراكة منضبطة، أم نموذج ينزلق تدريجياً نحو خصخصة غير معلنة؟ وهل يمكن إصلاح التعليم دون معالجة الفوارق الاجتماعية التي تعيد إنتاجها السوق التعليمية كل سنة؟
للإشارة، فإن الجدل الذي دار داخل البرلمان ليس سوى صورة أولية لصراع أكبر داخل المجتمع حول مستقبل المدرسة المغربية، وحول دور الدولة في ضمان تعليم منصف ومجاني وذي جودة. وبين الدفاع عن حرية الاستثمار والتحذير من تغوّل القطاع الخاص، يبدو المغرب أمام لحظة فاصلة تتطلب أكثر من قوانين… تتطلب رؤية حقيقية تُعيد الاعتبار للمدرسة العمومية باعتبارها حجر الأساس لأي نهضة وطنية.