بقلم : كريمة قروان
باحثة في سوسيولوجيا المخاطر و التحولات المجتمعية.
انفجار الزمن البيداغوجي وتآكل الإيقاع الموحد للتعلم
بينما كانت المدرسة، في تصورها الكلاسيكي، تشتغل ضمن منطق زمني خطي ومنضبط، شكل فيه الإيقاع الموحد للتعلم عنصراً مركزياً في تثبيت السلطة التربوية وضمان استمرارية الفعل البيداغوجي، فإن الدخول إلى عصر الرقمنة أدى إلى تفكيك هذا النسق، بما يُشبه الانفجار الداخلي للزمن التربوي. لم يعد التعلّم محصوراً داخل جدران الفصل، ولا مقيداً بإطار زمني مشترك بين المرسل والمتلقي، بل أصبح مندرجاً ضمن فضاء متعدد الإيقاعات، تتزاحم فيه التفاعلات الآنية والمؤجلة، ويتنازع فيه الزمن المؤسس ي مع الزمنالتقني الشبكي.
هذا الانفجار الزمني، كما تسميه بعض الأدبيات السوسيولوجية المعاصرة، لا يُفهم فقط كتحول في البنية التوقيتية للتعليم، بل يتجلى كفقدان تدريجي للقدرة على التنسيق الزمني بين الفاعلين داخل العملية التعليمية .
حين يحضر المتعلم في زمن مختلف عن زمن الأستاذ، وعندما تُمارس الرقابة في لحظة منفصلة عن لحظة التلقي، يتفكك بذلك التوازي الزمني الذي كان يُنتج نوعاً من الإيقاع الجماعي الضامن لبنية السلطة التعليمية الرمزية. إننا لا نتحدث فقط عن تباين في الجداول أو تأخير في التفاعل، بل عن شرخ سوسيولوجي يمسّ مقومات الان ضباط التربوي في العمق.
من هذا المنظور، تغدو المدرسة كأنها تسير في زمن مغاير لذلك الذي يعيش فيه المتعلمو ن. فهؤلاء، بفضل اتصالهم الدائم بالمنصات والوسائط الرقمية، يطورون عادات زمنية لا تتلاءم مع التوقيت البيداغوجي المؤطر. تظهر المفارقة عندما يصبح الزمن الت ربوي أقل جاذبية، وأقل قدرة على التموقع في الحياة اليومية للمتعلمين، لأنه يبدو “بطيئًا” و”مفصولًا” عن سياقهم الرقمي المتسارع. هذا التباين في الإيقاع لا يُضعف فقط سلطة الأستاذ، بل يُفقد العملية التعليمية معناها الجماعي ويجعل التعلّم يبدو كفعل فردي عابر أكثر منه تجربة تشاركية مستقرة.2
إن هذا الانفجار الزمني، بما يحمله من تشرذم في الحضور وتفاوت في زمن الاستيعاب والاستجابة، ينتج ما يمكن تسميته بـ”اللايقين البيداغوجي”، إذ تصبح العملية التربوية مفتوحة على احتمالات يصعب ضبطها مسبقاً. فلا المدرس يستطيع توقع تفاعل المتعلمين، ولا هؤلاء قادرون على التموقع في زمن واضح للتعلم. وتتضاعف حدة هذا اللايقين
عندما تتداخل أزمنة الزمن الاجتماعي مع أزمنة التعلّم، وحين لا يعود الفرق بينهم ا قابلاًللتمييز داخل بيئة الوسائط المتعددة.
في مثل هذه البيئة، لا تعود السلطة التربوية قادرة على العمل عبر الإيقاع الموحد، لأنها تفقد التحكم في “وحدة الزمن البيداغوجي”، التي كانت تؤسس لهيبتها وتشرعن تدخلها. كما أن تعدد القنوات، وتوزع مصادر المعرفة، يسهم في تصدع المرجعية الزمنية، ويخلق لدى المتعلمين إحساساً بعدم الحاجة إلى التقيّد بزمن المؤسسة، مما يفض ي إلى تراجع الشرعية الت ربوية باعتبارها شرعية قائمة على التزام جماعي بإيقاع التعلم. بل يمكن القول إن هذا التفكك الزمني يخلق نوعاً من “السلطة المؤجلة”، حيث لم يعد التوجيه يُنتج أثره في اللحظة ذاتها، بل بات ينتظر استجابات قد لا تأتي، أو تأتي متأخرة، وبذلك يُفرغ الفعل البيداغوجي من دلالته الفورية.
ما يعمق هذا التشخيص، كو ن المؤسسة التربوية لا تبدو مستعدة لإعادة تنظيم علاقتها بالزمن، إذ غالبًا ما تستبطن نموذجًا تقليديًا للوقت يفترض الحضور، والانضباط، والتفاعل المباشر، في حين أن الزمن الرقمي يشتغل بمنطق السرعة، والمزامن ة الافتراضية، والتفاعلية المتعددة. ومن هنا يصبح التحدي ليس في إدماج الوسائط، بل في إعادة التفكير في الكيفية التي يمكن بها للسلطة أن تُمارَس وتُشرعَن داخل فضاء زمنه مفتت ومواقعه غير مستقرة.
إن تحليل تفكك الإيقاع البيداغوجي داخل مجتمع المخاطر، يدفعنا إلى تجاوز المقاربات التقنية، نحو مساءلة شاملة للبنية الزمنية التي تؤطر السلطة التربوية. فلا سلطة يمكن أن تُمارَس دون زمن مشترك، ولا تعلم يمكن أن يكتسب طابعه الجماعي دون إيقاع يوحّده. ومن دون هذا التوازي، تصبح المدرسة أقرب إلى جهاز رمزي مشل و ل، فاقد لفاعليته ونجاعته.
هشاشة الشرعية التربوية في ظل تعدد الفضاءات الرقمية وتنوع مصادر المعرفة
لم يعد مفهوم الشرعية التربوية يستند إلى ما كان يُشكل سابقاً مرجعية مستقرة ومتعالية على السياقات، بل بات مشروطاً بمنطق تواصلي هشّ، يخضع لتقلبات الزمن الرقمي وتشظي الفضاءات الرمزية التي كانت تُؤطّر العلاقة بين الأستاذ والمتعلم. إذ في ظل تعدد الفضاءات الرقمية، وما يرتبط بها من تنوع في مصادر المعرفة، وتفاوت في أنماط الحضور والانخراط الديناميك ي، تَفقد السلطة التربوية مركزيتها التقليدية، وتغدو محلّ تفاوض مستمر، يخترقه الشك، وتتصارعه المفارقات.
منذ أن فقد القسم المدرس ي امتيازه كفضاء متفرد ومميّز لإنتاج المعنى والانضباط، وأصبحت العملية التعليمية موزعة بين الواقع الملموس وعالم المعارف الافتراضية، بدأت تتسرب إلى البنية التربوية أنماط من التلقي لا تعترف بالتراتبية المعرفية أو الرمزية التي كانت تمنح الأستاذ سلطة توجيهية مباشرة. فالمتعلم، وهو يتنقل بحرية بين قنوات ومضامين ومصادر غير متجانسة، يُعيد تشكيل شرعية العملية التربوية وفق معيار النجاعة اللحظية، لا وفق معيار الانتماء للمؤسسة أو الخضوع لمنطقها التأديبي .
إن ما تكشف عنه سوسيولوجيا المخاطر في هذا السياق هو أن الشرعية، بوصفها سلطة معنوية مقبولة من طرف المتعلمين، لم تعد محمية بالبنية المؤسساتية أو بالإجماع الرمزي، بل أصبحت رهينة ديناميات تواصلي ة وتفاعلية متقلبة، تتحكم فيها الواجهة الرقمية، وآليات التقييم الفوري، ومقاييس النجاعة الذاتية. ويترتب عن ذلك أن ا لأستاذ، مهما بلغت خبرته أو مركزه، يجد نفسه في موقع هشّ، مطالب بالتبرير الدائم لوجوده التربوي، وسط فضاء يُعلي من شأن السرعة، ويتبنى مقاربات متعددة للحقيقة والسلطة، تتجاوز ما يُقدَّم داخل الفصل الدراس ي .2
تُبرز هذه الوضعية مفارقة مركزية: السلطة التربوية لا تز ال قائمة من الناحية الشكلية، لكنها في العمق تتعرض لتآكل مستمر في مشروعيتها، لأنها لم تعد قادرة على فرض تمثلات موحدة للمعرفة أو لطرق اكتسابها. حين يكون المتعلم قادراً على مساءلة مضمون الدرس بناءً على محتوى رقمي متداول، أو استشارة بدائل معرفية في الوقت الفعلي، تتضاءل بالتبعية القدرة على إنتاج معنى موحّد أو انضباط داخلي يستند إلى ثقة رمزية متبادلة. هنا تصبح السلطة مرهونة بقدرة الأستاذ على التفاوض، وعلى الانخراط في منطق التبرير أكثر من منطق الإلزام، مما يجعل شرعيته عرضة للتآكل الرمز ي .
تزداد هشاشة هذه الشرعية مع انتشار ما يُعرف بـ”السلطات الموازية” داخل الفضاء الرقمي، والتي تمارس تأثيراً خفياً لكنه قوي المفعو ل على المتعلمين، من خلال المضامين المختارة، وأشكال التعبير، وحتى المعايير القيمية الجديدة التي تفرضها ثقافة المنصة. لم تعد المدرسة وحدها تنتج النموذج القيم ي والمعرفي، بل أصبحت تتقاسم هذا الدور مع المؤثرين، ومُصممي الخوارزميات، ومنتجي المحتوى، الذين يُرسّخون تمثلات للنجاح، للمعنى، وللمعرفة، لا تنسجم بالضرورة مع المرجعية التربوية المدرسي ة ومبادئها.
وهو ما يُفض ي إلى حالة من “الازدواج الشرعي”، تُضعف موقع المؤسسة التعليمية داخل البناء الرمزي للمجتمع .2
إن هذا التعدد في الفضاءات الرمزية يفرض على السوسيولوجيا التربوية مراجعة جذرية لمفهوم الشرعية ذاته. فلم تعد الشرعية تُبنى على الإجماع، بل على التفاعل؛ ولم تعد سلطة المدرّس تُستمد من موقعه المؤسس ي، بل من قدرته على التفاوض داخل شبكة متعددة المداخل والتأويلات. ومن هنا، فإن هشاشة الشرعية التربوية في زمن الرقمنة لا تُقاس فقط بتراجع الاحترام أو الانضباط، بل بتآكل العمق الرمزي الذي يمنح السلطة معناها الوجودي داخل الحقل التعليمي، ويعزز من قدرتها على ا لمنافسة.
يتبع..