هيئة التحرير
تأتي تصريحات رئيس الوزراء القطري الأسبق، حمد بن جاسم، حول خطورة الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني كإشارة سياسية تتجاوز ظاهر النص وتقترب من الاعتراف غير المباشر بوجود حملات رقمية موجهة تُستعمل لتأجيج الخلافات بين الدول العربية. فحين يتحدث مسؤول سابق بهذا الوزن عن أن هذه الحسابات تُدار “بعلم وموافقة الجهات الحكومية”، فإنّ الرسالة تصبح أبعد من مجرد ملاحظة تقنية، بل تتحول إلى مفتاح لقراءة جزء من الهجوم المنسّق الذي استهدف المغرب خلال الأسابيع الأخيرة.
المتابعون للفضاء الرقمي لاحظوا ارتفاعًا شاذًا في نشاط حسابات وهمية تهاجم المغرب وتشوّه صورته الدبلوماسية والسياسية. وتتقاطع التحليلات التقنية التي كشفت عنها منصة “إكس” منذ إطلاق خاصية إظهار الموقع الجغرافي للحسابات مع هذه الملاحظات؛ إذ تبيّن أن عددًا مهمًا من الحسابات المشاركة في حملات التشويش ينشط من داخل قطر أو من نطاقات مرتبطة بها. هذا التزامن بين تصريح حمد بن جاسم وانكشاف المواقع الجغرافية لتلك الحسابات لا يمكن اعتباره مجرد صدفة، بل يعكس حالة ارتباك داخل دوائر معينة في الدوحة أمام موجة الحقائق التقنية التي أصبحت تُظهر مصادر الهجمات الرقمية بوضوح أكبر.
استهداف المغرب في هذا التوقيت تحديدًا ليس منفصلًا عن سياقه الإقليمي. فالرباط تعزز حضورها دبلوماسيًا على مستويات متعددة، سواء في القارة الإفريقية أو في العالم العربي أو في علاقاتها مع شركاء استراتيجيين دوليين. هذا الصعود المتوازن لا يُريح بالضرورة بعض الأطراف التي اعتادت احتكار النفوذ الإعلامي والرقمي واستعماله كورقة ضغط. ومن الواضح أن المغرب، الذي ينجح في تحييد كثير من الحملات المرتبطة بقضاياه الاستراتيجية وعلى رأسها وحدته الترابية، أصبح هدفًا لمحاولات التشويش، ليس لضعفه، بل لقوته. فكلما ارتفع وزنه السياسي، ازدادت محاولات التأثير على صورته.
تصريح حمد بن جاسم بدا وكأنه محاولة مزدوجة: من جهة، تنبيه للرأي العام بشأن خطورة الذباب الإلكتروني، ومن جهة أخرى، خطوة استباقية للتخفيف من وقع المعطيات التي كشفتها “إكس”. لكنه في النهاية سلّط الضوء، ربما دون أن يقصد، على وجود خيط سياسي يربط بين الدوحة وبعض الحملات الرقمية التي تستهدف دولًا بعينها، والمغرب في طليعتها.
ورغم ضوضاء الفضاء الرقمي، يبقى المغرب محصنًا بفضل استقراره الداخلي وشراكاته الخارجية وحضوره الدبلوماسي القوي. الهجمات الرقمية، مهما كان مصدرها أو تمويلها، لا تغيّر موقعه الإقليمي ولا تقلل من فاعليته. لكن ما تكشفه هو واقع جديد في العلاقات العربية، حيث لم تعد الخلافات تُدار عبر اللقاءات المغلقة فقط، بل أيضًا عبر ساحات افتراضية يمكن تحويلها إلى أدوات ضغط سياسية.
الرسالة التي وصلت اليوم واضحة: الذباب الإلكتروني لم يعد مجرد مجموعات متناثرة على الإنترنت، بل أداة تُستخدم داخل صراع النفوذ. أما السؤال الحقيقي الذي يتبقى بعد تصريح حمد بن جاسم فهو ما إذا كانت قطر ستراجع هذا النهج أم ستواصل دعم الحملات غير المعلنة التي تشوش على علاقاتها مع دول شقيقة. وفي جميع الأحوال، يبقى المغرب في موقع قوة، وخصومه في موقع انكشاف.