حرية مع وقف التنفيذ: مجتمعات تدّعي الانفتاح وتكره التنوع

حرية مع وقف التنفيذ: مجتمعات تدّعي الانفتاح وتكره التنوع

- ‎فيرأي
90
0

بقلم : ذ محمد بوفتاس

الحرية ليست كلمة عابرة في معجم الحياة، بل هي جوهر الوجود الإنساني وشرطه الأول. لا يولد الإنسان كامل القوة أو كامل المعرفة، لكنه يولد مزوّداً بغريزة عميقة تدفعه نحو التحرر من كل ما يقيده ويكبل روحه. فالحرية ليست مجرد شعار سياسي يرفع في الساحات، وليست امتيازاً تمنحه سلطة ما ثم تستعيده حين تشاء، بل هي حالة إنسانية داخلية قبل أن تكون نظاماً قانونياً أو اجتماعياً. لهذا كانت الحرية معياراً لكرامة الإنسان، وبها يتحدد مقدار ما يمكن أن يبدعه أو يغيّره أو يساهم به في العالم.
ومن بين أرقى أشكال الحرية تبرز الحرية الفكرية باعتبارها الفضاء الذي تنطلق منه كل الحريات الأخرى. حين يستطيع الفرد أن يفكّر دون خوف، أن يطرح الأسئلة دون رقابة، أن يشكّ أو يؤمن أو يبحث أو يختلف، يصبح قادراً على بناء وعيه الخاص وعلى المشاركة الحقيقية في تطوير المجتمع. الحرية الفكرية ليست فوضى في الذهن، بل هي حركة منظمة تقوم على احترام العقل والاعتراف بقدرة الإنسان على التمييز بين ما يفيده وما يضره. إنها الطريق الذي يجعل الإنسان شريكاً في صياغة الحقيقة، لا متلقياً سلبياً لها.
أما الحق في الاختلاف فهو الامتداد الطبيعي للحرية الفكرية، لأن التفكير الحر يقود بالضرورة إلى تنوع في الآراء، وإلى قراءات متعددة للواقع. ليس الاختلاف تهديداً لوحدة المجتمع، بل هو دليل على حيويته. فالمجتمعات التي تخاف من الأفكار المختلفة، أو تُجرّم أصحاب الرأي المخالف، غالباً ما تبقى أسيرة التكرار والركود. في المقابل، المجتمعات التي تحترم التنوع وتستمع لكل الأصوات قادرة على تجديد نفسها باستمرار، وقادرة على تحويل النزاعات الفكرية إلى قوة خلاقة بدل أن تكون سبباً للانقسام.
ويتطلّب الحق في الاختلاف شيئين أساسيين: نضجاً من صاحب الرأي المخالف، وحكمة من المجتمع في التعامل مع الاختلاف. فليس كل اختلاف صراعاً، وليس كل نقاش حرباً. القدرة على تقبّل فكرة لا نتفق معها هي إحدى علامات التحضر، كما أن احترام حدود النقاش وحماية كرامة المخالف هما أساس العيش المشترك. عندما ندرك أنّ الإنسان ليس نسخة مكررة من غيره، وأن لكل فرد تجربته ورؤيته و زاوية نظره، يصبح التعامل مع الاختلاف أمراً عادياً لا يستدعي خوفاً ولا حساسية.
إن الحرية، سواء كانت عامة أو فكرية أو مرتبطة بالاختلاف، ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة لبناء مجتمع صحي قادر على النمو. هي أشبه بالهواء الذي لا يشعر المرء بقيمته إلا إذا نقص، وبالماء الذي لا يمكن للحياة أن تزدهر بدونه. وحين يحمي المجتمع حرية مواطنيه، ويؤمّن لهم فضاءً للتعبير والإبداع، فإنه في الحقيقة يحمي مستقبلَه هو، لأنه يفتح الباب أمام الأفكار الجديدة، ويشجع النقد البنّاء، ويضمن التوازن بين الأصالة والتجديد.
ولعلّ أجمل ما في الحرية أنها ليست هبة تُمنح، بل ممارسة يومية ومسؤولية مشتركة. هي احترام قبل أن تكون رأياً، وهي وعي قبل أن تكون موقفاً. أن نتمسك بالحرية يعني أن نؤمن بأن الإنسان قادر على التفكير وعلى اتخاذ القرار، وأن الاختلاف بيننا ليس لعنة بل نعمة، لأنه يوسّع دائرة الفهم ويجعل الحقيقة أكثر إنسانية وأقل جموداً. وفي النهاية، لن يكون لعالم بلا اختلاف معنى، ولا لمجتمع بلا حرية مستقبل.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like

المنصوري: المراكز القروية الصاعدة ورش استراتيجي لإنصاف العالم القروي

خولة العدراوي كشفت وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير