حين يغيب التفعيل… الفلسفة التربوية المغربية بين الحضور النظري والتَّغْيِيب التطبيقي

حين يغيب التفعيل… الفلسفة التربوية المغربية بين الحضور النظري والتَّغْيِيب التطبيقي

- ‎فيرأي
835
0

أنس غفاري

تعيش المدرسة المغربية منذ عقود على إيقاع إصلاحات متتالية، من الميثاق الوطني إلى الرؤية الاستراتيجية، وصولًا إلى النموذج التنموي الجديد. ورغم هذا الزخم، لا تزال المنظومة التربوية تعاني من غياب الروح التي تمنح للإصلاحات معناها الحقيقي، أي الفلسفة التربوية الفاعلة التي تُحوّل المبادئ النظرية إلى ممارسات وسلوك يومي. المشكل لا يكمن في نقص البرامج أو السياسات، بل في ضعف تفعيل الفلسفة التربوية على أرض الواقع، إذ تبقى حاضرة في الخطابات الرسمية وغائبة في السلوك الفعلي للمتعلم والمواطن.

يتجلى هذا الخلل في سلوك المواطن المغربي نفسه: كيف يمكن الحديث عن تربية على المواطنة، في الوقت الذي لا يحافظ فيه الكثيرون على نظافة الفضاء العام، ولا يحترمون قانون السير، ولا يلتزمون بروح المسؤولية الجماعية؟ هذه التصرفات ليست مجرد سلوكيات عابرة، بل هي انعكاس مباشر لفشل المدرسة في تحويل القيم التربوية إلى ممارسات حياتية ملموسة .
فالمدرسة تُعلّم مبادئ العدل والصدق والاحترام، لكنها لا تخلق بيئة يمكن للمتعلم أن يعيش فيها هذه القيم يوميًا، فتتحول إلى شعارات فارغة بلا أثر على السلوك.

يبرز الخلل بشكل واضح في التربية الإسلامية، التي كان يفترض أن تكون أساسًا لبناء الإنسان المتوازن، المبدع، والمتحضر. بدلاً من ذلك، حُصرت في مواد دراسية معزولة، ذات طابع تلقيني أو وعظي، لا تمتد إلى باقي المواد أو الحياة المدرسية. إن التربية الإسلامية في جوهرها ليست مجرد تكرار للنصوص، بل هي مشروع لتكوين الضمير الأخلاقي والعقلي للمتعلم؛ مشروع يعلم قيم الرحمة والعدل والصدق والمواطنة من منطلق الإيمان والمعرفة معًا. لكن الممارسة الفعلية تجعل هذه القيم شعارات تُقال في القسم وتُنسى خارجه، فتفقد العملية التعليمية انسجامها القيمي والفكري.

إن ضعف تفعيل الفلسفة التربوية جعل المدرسة المغربية تعيش انفصالًا بين الفكر والممارسة، وبين القيمة والسلوك، حتى غدت برامج الإصلاح مجرد تقنيات بلا روح، ومشاريع بلا رؤية إنسانية. فبدون فلسفة تربوية تُدمج البعد الإسلامي بالقيمي والبعد الإنساني بالعقلي، ستظل المنظومة عاجزة عن بناء المواطن الذي يحترم القانون، ويحافظ على المصلحة العامة، ويؤمن بأن نظافة الشارع جزء من إيمانه، وأن احترام الإشارة الضوئية شكل من أشكال الأخلاق المدنية للمسلم

إن إعادة الاعتبار للفلسفة التربوية ليست ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة وطنية لبناء مجتمع متوازن أخلاقيًا وسلوكيًا. فالتربية التي لا تغذي الروح ولا تُترجم القيم إلى واقع، لا يمكن أن تصنع مواطنًا صالحًا ولا وطنًا ناهضًا. المطلوب اليوم ليس إصلاح البرامج فقط، بل إحياء فلسفة تربوية مغربية أصيلة تستلهم من الإسلام جوهره القيمي والإنساني، ومن الفكر عمقه النقدي، لتخرج إنسانًا حرًا، مسؤولًا، مبدعًا ومتوازنا… إنسانًا يربط بين القول والفعل، وبين الإيمان والمواطنة، وبين الأصالة والتجديد.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like

الغابون. إدانة زوجة الرئيس المخلوع وابنه بالسجن 20 عاماً بتهم الفساد والاختلاس

هيئة التحرير أصدرت محكمة في الغابون، مساء الثلاثاء،