هيئة التحرير
من الشرعية التاريخية إلى مشروعية الإنجاز
ترتكز الرؤية الملكية السامية في تدبير قضية الصحراء المغربية على ثلاثية متكاملة تجمع بين الشرعية التاريخية والسيادة القانونية والمشروعية الشعبية. فمنذ اعتلائه العرش، جعل جلالة الملك محمد السادس من الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة قضية وطنية كبرى ومشروع دولة متجدد.
وقد أكد جلالته في خطاب الذكرى الثانية والأربعين للمسيرة الخضراء سنة 2017 قائلاً: “منذ توليت العرش، عاهدت الله، وعاهدتك، على بذل كل الجهود من أجل الدفاع عن وحدتنا الترابية، وتمكين أبناء الصحراء من ظروف العيش الحر الكريم.”
بهذا الالتزام الراسخ، انتقلت القضية من مجرد ملف سياسي ودبلوماسي إلى مشروع وطني شامل يقوم على عمق تاريخي متجذر في هوية المغاربة ووحدتهم الترابية. وأصبحت الصحراء اليوم، كما وصفها جلالته في خطاب سنة 2021، جوهر الوحدة الوطنية للمملكة وقضية كل المغاربة.
هكذا تحولت الشرعية التاريخية إلى مشروعية تنموية قائمة على الفعل الميداني والتلاحم الوطني، فغدت التنمية في الأقاليم الجنوبية أبلغ دليل على عمق الانتماء وصدق الالتزام.
من الدفاع إلى البناء… عبقرية الرؤية الملكية
تجلت عبقرية القيادة الملكية في الانتقال الذكي من منطق الدفاع إلى منطق البناء والتثبيت. فقد تحولت الصحراء من موضوع نزاع إلى قاطرة تنموية ومحور استراتيجي في السياسات الإقليمية.
وقال جلالته في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2020: “إن التزامنا بترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، لا يعادله إلا عملنا المتواصل، على جعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري.”
هذا التحول يعكس رؤية استراتيجية عميقة تقوم على تحويل الأرض إلى مشروع، والمجال إلى فضاء إنتاج واستثمار. فقد شهدت الأقاليم الجنوبية طفرة تنموية شاملة في مجالات البنيات التحتية والموانئ والطاقات المتجددة، ما جعلها اليوم نموذجاً مغربياً في العدالة المجالية والتكامل الاقتصادي بين الشمال والجنوب، وواجهة منفتحة على العمق الإفريقي.
وضوح الموقف وحزم المبادئ
من أبرز سمات الرؤية الملكية الوضوح في الموقف والحزم في المبادئ. فهي رؤية لا تقبل المساومة أو الازدواجية، كما عبّر عنها جلالة الملك في خطاب سنة 2009 قائلاً: “إما أن يكون المواطن مغربياً، أو غير مغربي… فإما أن يكون الشخص وطنياً أو خائناً، إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة.”
لقد وضع هذا الخطاب الحدود الصارمة للوطنية والانتماء، وأغلق الباب أمام المزايدات أو الولاءات المزدوجة.
وفي خطاب العيون سنة 2002، أكد جلالته بوضوح لا لبس فيه أن: “المغرب لن يتنازل عن شبر واحد من تراب صحرائه غير القابل للتصرف أو التقسيم.”
إنها لغة تؤكد أن السيادة المغربية غير قابلة للتفاوض، وأن الوطنية ليست شعاراً بل مسؤولية وممارسة.
في البعد الدولي: من الواقعية إلى الريادة
لم تتوقف الرؤية الملكية عند تثبيت مغربية الصحراء داخلياً، بل تجاوزت ذلك لتعيد صياغة الموقف الدولي من خلال مقاربة واقعية وريادية.
ففي خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2024، قال جلالته: “لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها، وتوضح الفرق الكبير بين العالم الحقيقي الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد بعيد عن الواقع.”
بهذه الرؤية، دعا جلالته المنتظم الدولي إلى مغادرة منطق الجمود، والاعتراف بالواقع الميداني الذي صنعه المغرب تنموياً ودبلوماسياً.
لقد أصبح المغرب اليوم فاعلاً محورياً في توازنات المنطقة، يقود برؤية واضحة تجمع بين الشرعية والسيادة والنجاعة، ويُعتبر مرجعاً في حل النزاعات على أساس التنمية والاستقرار.
الصحراء… معيار الصداقات وميزان العلاقات الدولية
يقول جلالته في خطاب 20 غشت 2022: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.”
بهذه العبارة الحاسمة، تحولت قضية الصحراء إلى بوصلة دبلوماسية ترسم خريطة علاقات المغرب الدولية، وتحدد بوضوح مواقف الشركاء على أساس الالتزام بمبدأ السيادة والوحدة الترابية.
لم تعد الصحراء مجرد ملف تفاوضي، بل أداة لفرز المواقف وتقييم الصداقات، ومعياراً لمدى احترام الدول للمشروعية الدولية ولثوابت المغرب.
من مسيرة التحرير إلى مسيرة الريادة
اليوم، تقود الرؤية الملكية السامية تحول قضية الصحراء من معركة استرجاع إلى مشروع ريادة وتنمية.
فالمغرب لا يدافع فقط عن شرعية ماضيه، بل يبني شرعية مستقبله في منطقة تعرف ديناميات جيوسياسية متسارعة.
كما قال جلالته في خطاب سنة 2004: “إن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها.”
إنها فلسفة دولة متجددة تمزج بين الثوابت الوطنية والفاعلية الدولية، وتُحوّل السيادة إلى تنمية، والانتماء إلى مشروع حضاري.
وبفضل هذه الرؤية، لم يعد المغرب ينتظر اعتراف العالم بعدالة قضيته، بل فرض اعترافاً بالأمر الواقع المشروع، عبر سياسة تنموية متكاملة ودبلوماسية استباقية قائمة على الوضوح والاستقرار وحسن الجوار.
إن الرؤية الملكية السامية أعادت تعريف مفهوم الشرعية في المنطقة المغاربية والإفريقية، عبر تحويل قضية الصحراء من ملف نزاع إلى نموذج استراتيجي للتنمية والاستقرار.
لقد انتقل المغرب من شرعية الدفاع إلى شرعية التأثير، ومن منطق السيادة إلى منطق الريادة، مجسداً بذلك قيادة متفردة تقوم على الثبات في المبادئ والمرونة في الوسائل، وعلى الجمع بين البعد التاريخي والرؤية الاستشرافية للمستقبل.