العدالة كفعل وعي: قراءة في محاكمة السيدة الباتول السواط بالعرائش

العدالة كفعل وعي: قراءة في محاكمة السيدة الباتول السواط بالعرائش

- ‎فيرأي
155
0

بقلم : عبدالقادر العفسي 

 

إن تتبع مسار محاكمة السيدة “الباتول السواط” بالعرائش لا يقاس بمجرد وقائع جلسة أو إجراءات قانونية، بل بما أفرزته من رمزية عميقة حول معنى العدالة في زمن التباس القيم وتنازع الخطابات، لقد تحولت القاعة إلى فضاء لاختبار الضمير الجمعي، حيث تقف الدولة والمجتمع والسلطة والمواطنة وجها لوجه، بلا وسائط ولا أقنعة.

 

نعم، لم تكن واقعة قضائية بالمعنى الإجرائي للكلمة، بل حدثا فكريا وسياسيا كثيف المعنى، أشبه بما يسميه بعض الفلاسفة “لحظة الحقيقة”، تلك اللحظات التي تعيد للأفكار جدواها وللدولة مرآتها، وللعدالة وجهها الإنساني بعد أن طالها التشييء الإداري، إنه الإحساس العظيم الذي يتولد أمام هيئة قضائية ومحامين يشتغلون بروح المسؤولية الوطنية لا ينبع فقط من نزاهة الممارسة، بل من لحظة نادرة تتصالح فيها الفكرة مع الواقع، هنا، العدالة لا تمارس بوصفها إجراء إداريا، بل كفعل أخلاقي يستعيد جوهر الدولة: أن تكون حارسة للكرامة لا للسكون، إن وجود قضاة و مستشارين ومحامين شرفاء يذكرنا بأن القانون حين يلامس القلب يصبح شكلا من أشكال المقاومة ضد البيروقراطية، وضد تشييء الإنسان في دواليب التقارير والمذكرات .

 

وهكذا تحول الجدل القانوني إلى امتحان للمؤسسات، وارتقت المحاكمة إلى مرتبة “الحدث المفهومي” الذي يعيد تعريف العدالة نفسها ، فإن ما ميز هذه المحاكمة هو حضور روح وطنية راقية داخل هيئة القضاء والدفاع، حيث أبان القضاة عن نبل في السلوك وعمق في الفهم، يدلان على أن العدالة حين تمارس بضمير، تصبح فعل تفكير قبل أن تكون تطبيقا .

 

القاضي الذي يبحث عن الحقيقة لا عن التهمة، هو في الحقيقة فيلسوف يمارس التفكيك العملي للظلم، والقانون حين يشتغل كأداة للإنصاف لا كذريعة للسلطة، يتحول من آلية ضبط إلى بنية أخلاقية منتجة للمعنى ، في هذه اللحظة، بالفعل بدت المحاكمة وكأنها تجدد الوصل بين الدولة ومواطنيها، إذ استعاد القانون مضمونه الأصلي: لا ليؤطر الحرية، بل ليحصنها .

 

لقد كانت المحاكمة مناسبة كاشفة، لم تكن مجرد مواجهة بين متهمة وخصومها، بل بين منطق السلطة ومنطق الحرية، بين من يرى في المواطن رقما وبين من يراه ضميرا، في المرافعات سمعنا أصواتا تخرج من رحم التاريخ، تذكر بأن الدفاع عن امرأة حرة هو دفاع عن فكرة الوطن ذاته، كانت الجلسة مختبرا للسياسة في معناها العميق: كيف يمكن للحق أن يتحدث في وجه القوة دون أن يفقد لياقته ولا احترامه للقانون؟

 

وما أروع أن نرى هيئة الحكم تنصت لا لتأكيد التهمة بل لاكتشاف الحقيقة ،حين يتسع صدر القاضي، تنفتح نوافذ الوطن، لم تكن المحكمة تشتغل بمنطق الحرف، بل بروح الإنصاف، بما جعلها تتجاوز حدود النص نحو جوهر العدالة، تلك اللحظة التي يلتقي فيها القانون بالأخلاق هي ما يصنع الفرق بين دولة تسود فيها الأوراق ودولة تسود فيها القيم، في المقابل، غاب عن المشهد أولئك الذين جعلوا من حقوق الإنسان شعارا للابتزاز، ومن الدفاع عن الكرامة تجارة موسمية، اختفوا لأن الحضور في معركة الشرف لا يقاس بالضجيج، بل بالصدق، السيدة “الباتول السواط” لم تأت لتطلب عطفا، بل لتؤكد أنها امرأة حرة في وطن حر، تؤمن أن الكرامة ليست منحة بل حق 

مكتسب بالوعي والجرأة .

 

أما فريق الدفاع، فقد أبان عن الجوهر النبيل لمهنة المحاماة، تلك التي لا تقاس فيها القيمة بعدد المرافعات، بل بعمق الوعي، بقداسة الكلمة ومسؤولية الحقيقة، أن تكون محاميا، يعني أن تمسك بسيف العدالة لا لتجرح به، بل لتشق به ظلمات الالتباس نحو ضوء الفهم، لقد جسد الأستاذ العظيم بقيمه و بصيرته و تفرسه “مصطفى الوهابي” ثبات المبدأ في زمن المساومات، وجعل من الموقف بيانا أخلاقيا قبل أن يكون قانونيا، وأبان الأستاذ “محمد البطيحي” عن ذكاء الحجة التي لا تقنع فحسب، بل تطهر الفكر من التبسيط، أما الأستاذ “مراد بوزيد”، فقد جعل من التحليل القانوني فعلا فلسفيا يعيد للنقاش معناه، وللعقل القانوني هيبته، جميعهم اشتغلوا في ظل هيئة قضائية أعلت القانون من كونه أداة ضبط إلى كونه أفقا للحرية، ومن نص جامد إلى روحٍ تنصف الإنسان قبل أن تحاكمه، لقد جعلوا من العدالة تجربة فكرية وجمالية معا، حيث يصبح الدفاع ليس مجرد مهنة، بل مقاما للكرامة والعقل والضمير.

 

ورغم كل هذا النور، ظل في الأفق ظل ثقيل: لوبيات عقارية سياسية إدارية التي ضاقت ذرعا بنتائج المحاكمة، لأنها كشفت أعطابهم وأوهام سلطتهم ، هؤلاء الذين يتاجرون بالوطن كما يتاجر السماسرة بالأسواق، نزع الله عنهم نعمة الخوف من الضمير ، إنهم لا يغضبون لأن العدالة انحرفت، بل لأنها مستقيمة.

 

نعم، إن غضبهم من نتائج المحاكمة ليس رفضا للقرار، بل خوف من عودة الفكرة إلى موقعها الطبيعي في الوعي العام، ولعل ما يجعل هذه اللحظة ذات دلالة فلسفية عميقة هو أنها أعادت الاعتبار لما يمكن تسميته بـ”العدالة المتفكرة”، أي تلك التي تتجاوز الإجراء لتسائل أصل السلطة ومعنى المواطنة، فالعدالة ليست هندسة قانونية، بل فعل تذكر جماعي: تذكر أن المواطن ليس مجرد كائن إداري، بل ذات حرة تملك حق الاعتراض دون خوف.

 

وفي عمق هذه التجربة، يمكننا قراءة ثلاثة مستويات متشابكة :

1_مستوى قانوني-أخلاقي: أظهر أن العدالة المغربية قادرة على التجرد ، و على استعادة جوهرها الإنساني.

2_مستوى سياسي-سوسيولوجي: المحاكمة فضحت البنية الهرمية التي تحتكر القرار المحلي وتعيد إنتاج الزبونية عبر جهات صورية.

3_مستوى فلسفي-أنطولوجي: اعاد تعريف علاقة الفرد بالدولة بوصفها علاقة مسؤولية متبادلة، لا علاقة وصاية وتبعية.

 

نعم ، إننا أمام لحظة نادرة تتيح للوطن أن يتأمل ذاته: هل نريد عدالة تحمي السلطة من النقد، أم عدالة تحمي المجتمع من السلطة؟هل نريد دولة تكمم ضمائرنا باسم النظام، أم دولة تنصت لضمائرنا باسم القانون؟ لقد دلت هذه المحاكمة على أن الطريق نحو مغرب صاعد يبدأ من هنا: من قاعة يتواجه فيها القاضي والمواطن في احترام متبادل، من مواجهة تبنى فيها الثقة لا على الخوف بل على العقل.

 

نعم ، إن هذه اللحظة تضعنا جميعا أمام سؤال فلسفي مرير: هل يمكن لوطن أن يتحرر دون أن يتحرر وعيه؟ وهل تكفي محاكمة عادلة لتقويض بنية الفساد المتجذر في اللاوعي السياسي والإداري و العقاري …؟ إن ما نحتاجه ليس فقط قضاة نزهاء، بل نخبة جديدة تفكر، لا تصفق، نخبة تؤمن أن السياسة ليست حرفة البقاء في السلطة، بل فن بناء المعنى المشترك.

 

من هنا، تصبح توجيهات الدولة وجلالة الملك نداء أخلاقيا قبل أن تكون مشروعا سياسيا: الدفاع عن الوطن لا يتم بالتصفيق للسلطة، بل بفضح الفساد الذي يخونها في كل إدارة وكل ملف وكل قرار، نحن أمام لحظة إمكان: إمكان ولادة مغرب جديد، لا تحكمه الأوليغارشية بل المواطنة الواعية، لا تقاس فيه القيمة بالموقع بل بالفعل، ولا يقاس الولاء بالصمت بل بالجرأة على قول الحقيقة.

 

إن محاكمة السيدة “الباتول السواط” ليست نهاية قضية، بل بداية سؤال: كيف نبني عدالة تجعل المواطن يشعر أن صوته أقوى من الخوف؟ أو هل نحن أمام بداية عصر المواطنة المفكرة، أم أننا سنعيد تدوير نفس الأقنعة القديمة بوجوه جديدة؟ ذلك ما ستكشفه الأيام، لكن المؤكد أن الباتول السواط  بصلابتها الهادئة قد أرغمت الجميع على التفكير، وما تفكر فيه الأمة لا يمكن لأي سلطة أن تسجنه بعد الآن، و إلى حين نجيب عن هذا السؤال، نكون قد بدأنا فعلا رحلة الصعود نحو مغرب يتصالح مع ذاته، ويستحق أبناءه كما استحقت السيدة “الباتول السواط” حريتها بشرف لا يشترى ولا يباع.

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like

تعديل انتخابي جديد يمنح رؤساء الجماعات حق الترشح للبرلمان ويستثني رؤساء الجهات

الرباط – سمية العابر أدخلت وزارة الداخلية تعديلاً