بقلم : عبدالقادر العفسي
إن تطابقت الأقصوصة مع الواقع فهي صدفة لا غير! تقول : هناك رئيس بلدية في مجال جغرافي هلامي ! مدلل يتعامل معه رأس هرم السلطة في هذا المجال كما لو كان وثيقة نادرة يجب إبقاؤها حية حتى لو تحللت كل مؤسسات الدولة من حوله، ليس مجرد شخص، بل كيان بيولوجي تصنعه السلطة ليبقى دليلا على قدرتها على إعادة تشكيل الخراب في هيئة إنسان.
السلطة هنا ، تحيطه بأحزمة من الدعاوى الجاهزة ضد كل من يجرؤ على فضح هشاشته، أعدت كل التقارير الحاقدة تنسكب كما لو كان مناهضي فساده الفاقع أعداء التراب و الانتماء ، تشغل من أجله أجهزة الدولة القضائية والإدارية والإعلامية كأن وجوده ضرورة بيوسياسية لا يجوز سقوطها ، هي لا تدافع عنه فقط، بل تشتغل على صيانة شكله الفيزيقي كجسد يجب أن يبقى في المجال العام، حتى يظل قابلا للتوريث وتستمر سلالته كنسخة معدلة من الفساد تتكرر كما تتكرر الطفيليات داخل كائن أكبر.
الحالة لا تقف عند الرئيس وحده، بل تمتد إلى نائبه الشبيه له في شكله الفيزقي في التقزز ،مهرب السيارات المضروبة صاحب العقار المتخم بالامتيازات، وإلى بطانته من المستشارين الذين جرى انتقاؤهم كما تنتقى الأدوات في ورشة لتفكيك ما تبقى من الدولة ، هؤلاء ليسوا مجرد فاسدين ،إنهم بنية منسوجة من الانحراف الممنهج والمصالح المحمية من رأس الهرم و سلطاته الممتدة ، حيث تصنع التحالفات مع المدمنين على المخدرات، والمنحرفين أخلاقيا، والمتواطئين في التخريب المؤسسي، إنهم نتيجة مختبر تجرى فيه تجارب لإنتاج أجساد مطيعة، مهمتها تعطيل كل محاولة لإحياء المؤسسات، وتحويل البلديات والجماعات و غيرها إلى مستنقعات يسهل التحكم في رائحتها.
أما الملعب فهو الصورة الأكثر فجاجة لهذا العبث، تخيلوا أيتها السيدات والسادة لاعبا وحيدا تسلمه السلطة الكرة وتفرغ من حوله الملعب بالكامل، لا لأنه محترف، بل لأنه معين مسبقا كهداف أعمى، لا فريق يسانده، ولا جمهور يشاهده، ولا قانون يضبط حركته، ومع ذلك تصدر السلطة البطاقات الحمراء، لا في وجهه بل في وجه كل ما قد يكشف زيف اللعبة: يتم طرد الطيور من فوق الأشجار لأنها قد تغرد بما يفضح، تقلع الأشجار ذاتها قبل أن تصدر صفيرا، تنزع الكراسي من المدرجات كي لا يجلس أحد ويعلق، ويمنع الهواء من المرور كي لا يوشوش باسم الحقيقة.
المهزلة تبلغ ذروتها حين تحمل السلطة الكرة بنفسها إلى مشارف المرمى، لا ثقة في قدرته على التسجيل، بل أملا في أن يحدث الهدف بالصدفة أو بالخداع البصري، لكنه لا يرى الطريق، ولا يملك قدما تقذف، ولا يتحكم في جسد يغوص في عماه ، ينتظر من يرفع رجله لينفذ الركلة، ومن يصرخ بدلا عنه معلنا الهدف، ومن يصفق وهو يسقط، كأن وجوده في حد ذاته كاف لتصنيف الهزيمة نصرا!.
السلطة هنا لا تحميه كفرد، بل تحرس صورة مصطنعة زرعت فيه، تفتعل له صلابة لا يملكها، وتنسج حوله هالة تجعل سقوطه مسألة محرمة ، إنها لا تنقذه من المحاسبة فحسب، بل تنتج من خلاله نموذجا يعاد تدويره: جسد فاسد يمنح الشرعية، وعقل غائب يمنح القرار، وبطانة منحرفة تمنح سلطة التخريب ، في هذه الحالة، لا تخرب المؤسسات من الخارج، بل تهرب من الداخل، تفرغ من مضمونها، وتحول إلى هياكل تخدم صورة واحدة لا معنى لها سوى أنها تضمن استمرار الوهم.
ما يجري ليس انحرافا فرديا ولا امتيازا عرضيا، بل سياسة إعادة إنتاج الانحطاط كآلية حكم، إنهم يصنعون بطلا من ورق، ويهندسون حوله فراغا يسع سقوط الجميع سواه، ويحرسون سلالته كما يحرس السر في جثة محنطة، الدولة في هذا الشكل لا تدير الشأن العام، بل تدير المسرحية: تكتب السيناريو، وتمنع النقد، وتسكت الجمهور، وتمسح آثار الجريمة قبل حدوثها، والملعب ليس سوى صورة مكبرة للبلد حين يحول إلى فضاء بلا قانون ولا معنى، تصفر فيه الرياح وتمنح البطولات للعميان.
هكذا ينتج الخراب لا كحادث، بل كمنهج ، تعاد صياغة الفساد ليصبح شرطا للحكم، وتصاغ السلطة كآلة لحماية العجز، ويستبدل الصراع السياسي بمسرحية الركلة المستحيلة، حيث تمسك السلطة بالرجل الميت وتوجهها نحو المرمى، فقط لتصنع من السقوط نصرا ومن الوهم واقعا ومن العمى نظاما دائما.