“أمة اقرأ لا تقرأ”… الحقيقة المضيئة وراء المقولة المحبطة

“أمة اقرأ لا تقرأ”… الحقيقة المضيئة وراء المقولة المحبطة

- ‎فيرأي
227
0

محمد خالد

تتردد هذه العبارة كثيرًا على الألسن: «أمة اقرأ لا تقرأ»، حتى أصبحت وكأنها حقيقة مُسلَّم بها، تُستخدم أحيانًا لتقريع المسلمين وإشعارهم بالتقصير الحضاري. غير أن هذه المقولة، رغم شهرتها، تختزل الواقع اختزالًا مخلًّا، وتحمل قدرًا كبيرًا من الظلم والإحباط.

فقد نزل القرآن الكريم بأول أمرٍ إلهي إلى النبي ﷺ: «اقرأ»، على أمةٍ كان أغلبها لا يعرف القراءة والكتابة، ومع ذلك تحولت خلال سنوات قليلة إلى منارة علمٍ وهداية للعالم. لم يكن الأمر أمرَ ثقافة ورقية، بل مشروعًا شاملًا للنهضة، قوامه بناء وعي، وفهم، وتدبر، وتعليم، وتبليغ. ومن ثم فإن اختزال الأمر في مجرد عدد الكتب المقروءة أو في مؤشرات كمية سريعة هو تقزيم لمضمون الرسالة الأولى التي حملتها هذه الأمة إلى العالم.

من غير المنصف كذلك تجاهل أن حتى أضعف المسلمين اليوم يفتح المصحف مرة في السنة على الأقل، من رمضان إلى رمضان، بينما آخرون يجعلون التلاوة اليومية عادة لا تنقطع.

ثم إن القراءة الحقيقية ليست محصورة في الورق، ولا تُقاس بعدد الصفحات. فكم من قارئٍ يمر على عشرات الكتب دون أن يخرج منها بفكرة ناضجة، وكم من مستمعٍ لمحاضرات في العلوم الشرعية، أو العلوم الكونية كالفيزياء والفلك والطب، أو علم النفس والتنمية، يكتسب علمًا راسخًا وفهمًا عميقًا، وإن لم يُمسك كتابًا يوميًا. القراءة ليست نشاطًا شكليًا، بل هي كل وسيلة يتلقى بها الإنسان معرفة نافعة ويستبصر بها واقعه. فالقيمة في الأثر والفهم لا في الكمّ.

أما ما شاع في الغرب من مفاخرة بعدد الكتب المقروءة سنويًا، وقياسها أحيانًا بما يُسمى «الميلوغرام»، فهو في كثير من جوانبه خدعة تجارية. فحين تحوّل النشر إلى صناعة ضخمة، خصوصًا مع انتشار الكتب الإلكترونية، صار التركيز على الأرقام والتصنيفات وسرعة القراءة أكثر من التركيز على نوعية المعرفة وعمقها. إنها مؤشرات تسويقية تخدم دور النشر ومنصات البيع، أكثر مما تخدم الوعي الإنساني الحقيقي.

ولا يمكن إغفال أن أغلب الدول الإسلامية تفتقر إلى سياسة تربوية واضحة تحدد نوعية شخصية الطالب التي تريد بناءها. فالمناهج التعليمية نادرًا ما تتبنى نظرية الذكاءات المتعددة، ولا تفتح مسارات تنمّي المواهب المختلفة. والنتيجة أن كثيرًا من الطلاب يشعرون بالفشل خارج الإطار الدراسي التقليدي، رغم امتلاكهم ذكاءً لغويًا، أو عاطفيًا، أو اجتماعيًا مميزًا. النظام التعليمي الحالي يحصر الذكاء في مسار ضيق، ويهمّش بقية الطاقات، فيُخرج أجيالًا تظن أن النجاح حكر على من يبرع في الحفظ أو الحساب، متناسية أن النهضات الكبرى قامت على تنوع العقول والقدرات.

بدلاً من ترديد مقولات محبِطة، الأجدر بنا أن نعيد تعريف القراءة في وعينا المجتمعي، وأن نشجع على القراءة التي تثمر علمًا نافعًا، وفكرًا إصلاحيًا، وطاقات خلاقة. إن الأمة التي خوطبت بـ«اقرأ» قادرة على أن تقرأ من جديد، لا لتقليد غيرها، بل لتنهض من عمق رسالتها، وتبني حضارة جديدة بملامحها الأصيلة.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

اتحاد المحامين الشباب بمراكش يدين اعتداءً جسديًا على أحد أعضائه ويطالب بحماية المهنة

خولة العدراوي عبر اتحاد المحامين الشباب بمراكش عن