حين يتكلم العرش… تستيقظ الحقيقة و يتنفس الوطن 

حين يتكلم العرش… تستيقظ الحقيقة و يتنفس الوطن 

- ‎فيرأي, في الواجهة
4063
0

بقلم : عبدالقادر العفسي

 

في كل مرة يتحدث فيها جلالة الملك، لا يكون الخطاب مجرد حدث سياسي، بل فعل وجودي يعيد ترتيب وعي الأمة بذاتها، فالكلمة الصادرة من موقع العرش ليست وعدا مؤقتا، بل إعلان عن استمرار التاريخ في صياغة ذاته، في زمن تتزاحم فيه الأزمات وتضيع فيه المعاني .

 

عندما نتأمل بعمق شديد خطاب جلالة الملك حفظه الله بصفته أمير المؤمنين و رئيس الدولة لم يخاطب المؤسسات فقط في افتتاح البرلمان هذه المرة ، بل خاطب الضمائر ، و خاطب ما تبقى من نور في قلب الأمة حين يشتد الظلام ، في لغة جلالته تمتزج بواقعية الدولة و بصفاء الرؤية، فيبدو الخطاب كمنارة لا تبحث عن التصفيق، بل عن اليقظة ، إن أعظم ما في الخطاب الملكي أنه لا يسكن الشعب في الوهم، بل يضعه أمام مسؤوليته، أمام ذاته، أمام قدره .

 

إننا نعيش لحظة تحتاج إلى إعادة تعريف الأمل لا كمجرد شعور، بل كقوة تاريخية، نعم الأمل، كما يتراءى في الخطاب، ليس انتظارا، بل فعلا متجددا، إرادة ملكية تريد أن تجر الوطن من دائرة العجز إلى فضاء المبادرة، كل عبارة فيه تذكرنا بأن البناء لا يتم بالحنين، بل بالعقل، وأن الزمن لا يمنح، بل يصنع .

 

ما قيل في هذا الخطاب لم يكن توجيها بيروقراطيا، بل مشروعا فكريا عميقا: كيف يمكن للوطن أن يتجاوز خطابه القديم ويؤسس لمرحلة يكون فيها الإنسان جوهر التنمية لا موضوعها؟ كيف يمكن للعدالة أن تنتقل من الوعد و الاستلاب إلى الممارسة؟ وكيف يمكن للمواطنة أن تتحول من انتماء رمزي إلى مسؤولية يومية؟

نعم جلالة الملك ، لم يتكلم من علو، بل من عمق يلامس جذور الأرض، كان صوته كأنه ذاكرة البلاد حين تعيد ترتيب فوضاها لتستقيم من جديد، لم يكن خطابا سياسيا، بل لحظة وعي تقاس بمقياس الروح لا بموازين السلطة ، هناك، في نبرة لا تصطنع الهدوء، أعلن عن عودة الأمل بوصفه فعلا لا شعارا، فالأمم التي تشيخ في الخوف تحتاج من يوقظها، لا من يطبطب على جراحها، وجلالة الملك، وهو يتكلم، لم يطمئننا كما يفعل السياسيون ، بل أيقظنا كما يفعل القدر حين يضعنا أمام حقيقتنا .

لقد قال لنا بطريقة لا تحتاج إلى صراخ: أن الدولة بلا عدالة ليست وطنا، وأن المواطن بلا كرامة ليس مواطنا، قالها بنبرة تشبه الريح حين تمر على وجوهنا فتكشف الغبار المتراكم على المرايا، كان الخطاب مرآةً كبرى نرى فيها أنفسنا، لا كما نتمنى أن نكون، بل كما نحن ..

في تلك اللحظة، صار الوطن فكرا يمشي على الأرض، كل جملة كانت تعيد ترتيب العلاقة بين السماء والأرض، بين الملك والشعب، بين الدولة والحلم، لم يكن الخطاب أمرا، بل نداء، نعم نداء إلى الذين ما زالوا يؤمنون أن التاريخ يكتب بالضمير قبل الحبر .

إن الخطاب الملكي لم يكن تأكيدا على ما نعرف، بل دعوة لأن نفكر فيما لم نفكر فيه بعد ، فهو لا يطلب الطاعة، بل المشاركة الواعية، لا يبحث عن الخضوع، بل عن الوعي، وهو بذلك يفتح أفقا جديدا للدولة: دولة تتكلم لغة الحقيقة، لا لغة الزينة ،دولة لا تخاف النقد لأنها تؤمن بالإنصات ، دولة تعرف أن الشرعية لا تورث فقط، بل تجدد بالعدل، بالصدق، وبالعمل الذي لا يكل .

 

لقد آن لنا أن ندرك جميعا خاصة المؤسسات الرسمية و هو يعطي تعريف لمفهوم الحرية أن الإصلاح ليس صراعا بين الدولة والمجتمع، بل بين النور و التقاعس في داخلنا جميعا، الخطاب الملكي هو نداء إلى ضمير الأمة كي تستعيد شجاعتها الفكرية، وتواجه ذاتها بصدق ، فمن لا يصلح ذاته، لن تصلحه القوانين، ومن لا يرى في الإصلاح واجبا شخصيا، سيظل أسير الشكوى.

 

نعم ، في لحظة تشظى المعنى و تياهان  البوصلة لدى البعض ، و في منصة دستورية و هو البرلمان لها لغة أخرى ، يجيء صوت الملك كمشروع وعي جديد ، يذكرنا أن الوطنية ليست انفعالا لحظة خطاب، بل التزاما يوميا بخلق المعنى، وأن التنمية ليست هندسة طرق وموانئ، بل بناء إنسان يعرف لماذا يعيش، وكيف يخدم وطنه .

 

جلالة الملك بالرغم أن المنصة البرلمانية تتطلب صيغة أخرى كما تمت الإشارة ، فجلالته لم يخاطب المستقبل بوصفه وعدا مؤجلا، بل كحقيقة تولد في اللحظة التي نقرر فيها أن نكون، لذلك بدا الخطاب هذه المرة كرسالة فلسفية لا سياسية فقط، فيها من الصدق ما يكفي لإرباك المترددين و التائهين ، وفيها من الأمل ما يكفي لإحياء شعب تعب من الانتظار ، بمعنى أخر :ليس المطلوب من الدولة أن تتكلم أكثر، بل أن تصغي أكثر ، وليس المطلوب من المواطن أن يصفق، بل أن ينهض، لأن الخطاب هذه المرة لم يأت ليطمئننا، بل ليوقظنا من خدر الكلمات،كأنه تذكير بأن كل أمة لا تفكر في نفسها، سيفكر فيها غيرها .

 

و في صمت جلالته بين الجمل، كان الخطاب يقول ما هو أعمق من الكلام: أن السلطة بلا معنى إن لم تتحول إلى مسؤولية، وأن الحرية بلا التزام ليست سوى ضجيج، و أن العدالة ليست شعارا يرفع، بل فعل يومي يمارسه الحاكم قبل المحكوم .

 

وهنا تكمن عظمة اللحظة: في أن جلالة الملك يجرؤ على مساءلة الدولة باسم الشعب، وعلى مساءلة الشعب باسم الوطن، هذه الجرأة الفكرية هي ما يجعل الخطاب حدثا يتجاوز السياسة إلى الفلسفة، من التسيير إلى المصير، إن كلمات جلالته هي ثورة هادئة، وشيء من الصلاة على المعنى الضائع، كأن الملك لم يكن يتحدث عن المستقبل فقط، بل عن إنسان جديد نحتاج أن نولده فينا، إنسانٍ يزرع قبل أن يطلب، ويعمل قبل أن يحتج، ويؤمن أن الوطن لا يعطى، بل يبنى كل يوم .

ذلك هو الأمل الذي لا يشيخ: أمل لا ينتظر الخلاص من فوق، بل يصعد من تحت، أمل يجعل من كل حجر في الطريق خطوة إلى الأمام، ومن كل عثرة درسا في النهوض، نعم ،هكذا تتكلم الممالك حين تكون الروح فيها أوسع من العرش، وحين يكون الملك مرآةً للأمة لا ظلا فوقها، لأن الحقيقة حين تخرج من فم مفعم بالمسؤولية، تصبح قدرا لا يقاوم، تكلم جلالته ، فاستيقظت فينا بقايا الحلم القديم، وعاد الوطن يتنفس من جديد، لم نعد نبحث عن المعجزة، لأننا أدركنا أن المعجزة فينا، وأن العرش لا يحمي من الخارج، بل ينير من الداخل .

لقد فتح الخطاب بابا نحو نوع جديد من العلاقة بين الحاكم والمحكوم: علاقة لا تقوم على الاستلاب و التخويف و الترهيب ، بل على الوعي، على الإيمان بأن الوطن ليس سلطة فقط، بل مسؤولية جماعية ، وأن الملك، حين يتكلم، لا يتحدث عن ذاته، بل عن الوطن كما ينبغي أن يكون .

 

إننا أمام لحظة ملكية تنقلنا من مرحلة التبرير إلى مرحلة الفعل، من الاستقبال إلى الإرسال، من الانتظار إلى العمل، من الخوف إلى الثقة، إنها دعوة إلى استئناف الحلم، ولكن هذه المرة بلغة الممكن لا المستحيل، فكل ما في الخطاب من صدق، يجعلنا نوقن أن المستقبل لن يمنح لنا، بل سنصنعه بأيدينا، وتحت نظر من لا يكل عن تذكيرنا بأن الأمل، في هذا الوطن، قدر لا يؤجل، و على أن هذا الأمل ليس رفاهية عاطفية، بل ضرورة وجودية .

 

 فالمستقبل لا يولد من الأمنيات، بل من يقظة جماعية تشعلها إرادة ملك يؤمن بأن النهضة ليست قرارا إداريا، بل تحولا في الوعي، ومن يصغي إلى الخطاب  بصدق و يفكك بعمق، سيعلم أن التاريخ يبدأ من هنا… من كلمة خرجت لتعيد للمعنى شرفه، وللأمل حقه في البقاء .

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

وفاة رجل خمسيني في حادثة سير مروعة بطريق سوق الربيع بمراكش

هيئة التحرير شهدت طريق سوق الربيع بحي سيدي