جيل زد،صدع الصمت: الدولة والمجتمع أمام لحظة الحقيقة

جيل زد،صدع الصمت: الدولة والمجتمع أمام لحظة الحقيقة

- ‎فيرأي
1187
0

بقلم : عبدالقادر العفسي / المغرب

 

لم يكن الصراخ الذي دوى في شوارع مدننا مجرد ضجيج عابر أو فورة شبابية عارضة، بل كان لحظة كشف مرعبة، أشبه بصدعٍ يتسع في جدار الصمت الذي بني بعناية على مدى عقود، إنه ليس مجرد احتجاج، بل هو عرض حي ومباشر لانهيار السردية الرسمية، تلك المسرحية المتقنة التي تلعب فيها الدولة وأحزابها ومؤسسات مجتمعها المدني أدوارا موزعة سلفا في دراما زائفة عنوانها الاستقرار والتوافق .

 

 لقد خرج جيل لم يعد يشتري هذه التذاكر، جيل ولد في قلب الفضاء الرقمي المفتوح، خارج أسوار الحقل السياسي التقليدي ومؤسساته التي تمارس تطويعا ناعما للعقول والنفوس، وهو ما يمكن تسميته عنفا رمزيا، يفرض تعريفات الواقع ويحدد ما هو ممكن وما هو مستحيل، ما هو مشروع وما هو شغب !

 

إن ما نشهده ليس أزمة سياسية بالمعنى التقليدي، بل هو أزمة هيمنة عميقة، لقد نجحت المنظومات الحاكمة، لعقود، في بناء إجماعٍ صامت، ليس بالقمع وحده، بل بخلق شبكة معقدة من المؤسسات الوسيطة – أحزاب، نقابات، جمعيات – التي تعمل كصمامات أمان، تمتص الغضب وتفرغه من محتواه التغيري، وتحوله إلى مطالب فئوية متناثرة يمكن احتواؤها أو تجاهلها، هذه المؤسسات، التي من المفترض أن تكون جسرا بين المجتمع والدولة، تحولت في الواقع إلى جزء من بنية السيطرة، إلى أدوات لترسيخ القبول الطوعي باللامساواة، وتكريس تلك الاستعدادات والتصورات المكتسبة التي تجعل الخضوع يبدو طبيعيا ومنطقيا .

 

 وعندما يخرج هذا الجيل الجديد، فهو لا يخرج ضد سياسة بعينها، بل ضد هذه البنية بأكملها، ضد هذا “الحس السليم” المصطنع الذي يخبره بأن أحلامه بالكرامة والعدالة هي مجرد طوباوية خطيرة !

 

لقد أشرت في كتابات عدة سابقة، مرارا وتكرارا، إلى أن هذه اللحظات من الانفجار ليست استثناء، بل هي القاعدة الحتمية لمنظومة ترفض الإصلاح الجذري، لكن المأساة الحقيقية تكمن في قدرة هذه البنية على تجاوز الحدث، على امتصاص الصدمة ثم العودة إلى ما أسميه “عقلية الحجارة”، إنها عقلية صماء، ترى في كل صرخة تهديدا وجوديا يجب سحقه، وفي كل مطلب مؤامرة يجب إحباطها ، لا يوجد حوار حقيقي، بل هناك إستراتيجية لإدارة الأزمة :

أولا، الاحتواء الأمني لترهيب الجسد الاجتماعي بغاية خلق أزمة بين مؤسسات القانون و المجتمع.
ثانيا، إطلاق وعود فضفاضة وفتح “حوارات شكلية” لا تهدف إلى التغيير بل إلى كسب الوقت وتفتيت الحراك.

وثالثًا، وهو الأخطر، إعادة إنتاج منظومة الفساد وتكييف آلياتها لتصبح أكثر مقاومة لأي محاولة إصلاح مستقبلية، السلطة هنا لا تعمل كقوة قاعية فقط، بل كقوة إنتاجية، تنتج الخطاب الذي يشيطن المحتجين، وتنتج المعرفة التي تبرر الوضع القائم، وتدير الحياة نفسها لضمان استمرار السيطرة .

 

وهنا يكمن “فشل الكل”، وهو ليس فشلا متساويا، بل هو فشل بنيوي منظم، تفشل الدولة لأنها تحولت إلى آلة بيروقراطية ضخمة همها الأوحد هو الحفاظ على امتيازات النخب المرتبطة بها، وفقدت أي مشروع مجتمعي حقيقي، وتفشل الأحزاب السياسية لأنها تخلت عن دورها في تأطير المجتمع وتمثيله، وأصبحت مجرد نواد انتخابية تتنافس على فتات السلطة و المال داخل الحقل الذي تم تقاسمه، عاجزة عن فهم لغة الشارع أو استيعاب طاقته، ويفشل المجتمع المدني “الرسمي” لأنه أصبح جزءا من “إستراتيجية الهيمنة”، يشارك في مسرحية “الديمقراطية التشاركية” بينما هو في الجوهر يخدم أجندة ترويض المجتمع لا تمكينه .

 

ويفشل كذلك إعلام الدولة فشلا ذريعا، إذ يتحول من أداة مفترضة للتنوير إلى مجرد صدى باهت للسلطة، يكرر الروايات الجاهزة ويصنع واقعا بديلا لا يراه إلا هو ومنتفعوه، إنه إعلام فقد القدرة على بناء الجسور مع الجمهور، واكتفى بدور الحارس الأعمى لبوابات قلعة مهجورة، مما يفاقم اغتراب المواطن ويدفعه للبحث عن الحقيقة في فضاءات أخرى لا تخضع لسيطرة أحد .

 

 أما الاحتجاجات نفسها، رغم صدقها ومشروعيتها، فإنها تواجه خطر التحول إلى مجرد لحظة تمردية، صرخة في فراغ، إذا لم تنجح في بلورة رؤية وبناء تنظيمات قادرة على خوض “حرب مواقع” طويلة الأمد، وتحويل الغضب العفوي إلى قوة تغيير منظمة تتجاوز الشغب وردود الفعل العاطفية .

 

إن ما يطالب به هذا الجيل ليس مجرد إصلاحات تقنية في التعليم أو الصحة، بل هو تحطيم للأصنام، هو رغبة في إعادة تعريف العقد الاجتماعي نفسه، إنه صراع حول من يملك الحق في الكلام، ومن يملك الحق في تحديد معنى “المصلحة العامة”، إنها لحظة الحقيقة التي تكشف أن الجسد الاجتماعي حي، وأن طاقته لم تمت، لكنها أيضا تكشف عن قوة وبراعة الآليات الخفية التي تعمل على إبقائه مقيدا، فالسلطة لا تسكن فقط في القصر أو البرلمان، بل تتغلغل في لغتنا اليومية، في طموحاتنا، وفي تعريفنا للنجاح والفشل . 

 

إنها شبكة غير مرئية من العلاقات التي تنتج وتخضع في آن واحد، وتجعل من التمرد عليها فعلا وجودياً يتطلب وعيا عميقا بآلياتها الخفية، إنها ليست نهاية التاريخ، بل ربما هي بدايته الحقيقية، بداية مؤلمة وصادمة، تضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وتعلن بوضوح أن النموذج القديم قد مات، حتى وإن كانت جثته لا تزال تحكمنا، فالإنسان ليس مجرد كائن اقتصادي يسعى للربح، بل هو كائن يبحث عن المعنى والكرامة، وعندما يحرم منهما، يصبح تمرده ضرورة لا خيارا .

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

كودار: تنمية جهة مراكش آسفي ليست رهينة بالمناسبات… بل رؤية متجذّرة في الزمن التنموي للمملكة

هيئة التحرير أكد سمير كودار، رئيس مجلس جهة