خرافة المنقذ المنتظر: المهدي والمسيح بين الأسطورة والتناقض العقائدي

خرافة المنقذ المنتظر: المهدي والمسيح بين الأسطورة والتناقض العقائدي

- ‎فيرأي
116
0

بقلم: ذ. محمد بوفتاس

خرافة المهدي المنتظر ليست مجرد فكرة دينية تفيض بها كتب الملاحم والفتاوى، بل هي نتاج تراكم تاريخي وفكري وثقافي تشابكت فيه الأسطورة بالسياسة، والدين بالمصالح الاجتماعية، والتوقع بالمخاوف الجماعية. جذور هذه الفكرة تعود إلى أعماق التاريخ الإسلامي، حيث ظهرت بوادر الحديث عن شخصية ستأتي لتعيد العدالة، وتقيم الحق، وتُنهي الفساد والاستبداد. في بدايات القرن الأول الهجري، كانت الجماعات الإسلامية تواجه تحولات سياسية كبيرة، من خلافة إلى خلافة، ومن صراع على السلطة إلى تمزق داخلي، وهنا برزت الحاجة النفسية والاجتماعية إلى بطل مثالي، يحقق الحلم الجمعي للعدل والمساواة، ويعيد الطمأنينة بعد فترات من الاضطراب والفوضى. هذه الفكرة لم تنشأ في فراغ، بل ارتبطت بمخاوف الشعوب من الاضطهاد والاحتلال، وبحاجة الجماعات إلى رموز توحيدية. في زمن الخلافة العباسية، مثلًا، برزت تيارات مختلفة استغلت الحديث عن المهدي المنتظر كأداة لتعبئة الناس، أو لتبرير انتفاضات، أو لإضفاء الشرعية على قيادات محلية. الفكرة إذن كانت مرتبطة بآمال البشر في التغيير الجذري، وبحاجة الزعماء إلى ربط سلطتهم بخاتم النبوءة. ومع مرور القرون، تحولت إلى أداة رمزية يمكن استحضارها في أوقات الأزمات، سواء كانت اقتصادية، اجتماعية، أو سياسية، لتصبح وعدًا مستمرًا بقدوم من سيعدل ميزان القوى ويعيد التوازن إلى العالم.
الجانب الأكثر إثارة في هذه الفكرة هو كيف أن أسطورة المهدي المنتظر تجمعت من مصادر متعددة ومتناقضة أحيانًا. الروايات الفقهية، والأساطير الشعبية، وكتب التاريخ، وحتى الكتابات الصوفية، كلها ساهمت في صناعة شخصية شبه أسطورية، غير قابلة للتمحيص بالمنطق وحده، لكنها محكمة في قدرتها على التأثير النفسي والاجتماعي. هذه الشخصية المثالية، التي ستظهر فجأة في زمن الفساد، حملت معها أمل الجماعات المضطهدة، وأضفت بعدًا دينيًا على الحركات الثورية. في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، مثل المغرب، والعراق، واليمن، وأفغانستان، استُخدمت فكرة المهدي لتبرير ثورات أو حركات اجتماعية، وكأن الوجود المتوقع للبطل المنقذ يخفف من مسؤولية الفشل الإنساني في مواجهة الظلم.
وإضافة إلى ذلك، استُدعِي في كثير من الخطابات الدينية فكرة عودة المسيح كنموذج آخر للمنقذ، ما يطرح سؤالًا جوهريًا: إذا كان النبي محمد هو خاتم الأنبياء والرسل، كما جاء في القرآن الكريم، فما معنى أن يعود المسيح في نهاية الزمان ليقوم بدورٍ عالمي أو إكمال رسالة دينية؟ هذا التناقض المنطقي بين التوحيد الكامل لخاتم النبوة وضرورة وجود شخصية إلهية أو شبه إلهية تعود لتكميل الرسالة يضع الفكر الإسلامي أمام مأزق عقلاني، لكنه أيضًا يوضح قوة الأسطورة في إشباع الحاجة البشرية للانتظار والخلاص. فالفكرة ليست هنا عن حقيقة تاريخية، بل عن قدرة الجماعات على الجمع بين رموز مختلفة لتثبيت الأمل، حتى ولو كان ذلك على حساب الاتساق المنطقي بين العقيدة والتاريخ.
في العصر الحديث، دور هذه الفكرة لا يقتصر على التعبئة الشعبية فحسب، بل تعداه إلى المجال السياسي والدعوي. الحركات الإسلامية في القرن العشرين، سواء أكانت سياسية أو صوفية، استغلت أسطورة المهدي المنتظر وإشارات عودة المسيح لإضفاء نوع من الشرعية الرمزية على مشروعها، أو لتبرير الانتظار والتحرك في الوقت المناسب. كذلك، ظهرت ممارسات اجتماعية مرتبطة بهذه الأساطير، مثل تفسير الأزمات الحالية على أنها علامات اقتراب ظهور المنقذ، أو أن يكون الشخصيات القيادية في بعض الجماعات بمثابة مقدّمة لتجلي هذه الشخصيات الأسطورية. هذه الاستخدامات تظهر بوضوح أن الفكرة تجاوزت بعدها الديني، وأصبحت أداة للسيطرة على السرد الجمعي، ومفتاحًا لفهم كيف يمكن للأسطورة أن تتحول إلى قوة حقيقية في الحياة اليومية والسياسة.
وبالنظر إلى هذا السياق، يتضح أن ما يُعرف بـ«المهدي المنتظر» و«عودة المسيح» ليس حقيقة مطلقة، بل تراكم اجتماعي وتاريخي لآمال بشرية، ومخاوف جماعية، ورغبة في العدالة، وترابط سياسي مع الحاجة إلى رموز مركزية في أوقات الفوضى. هو تعبير عن حاجات بشرية دائمة: الأمان، العدالة، والفداء. لكن الأخطر هو أن هذه المفاهيم، حين تُقدَّم على أنها حقيقة حتمية، تتحول إلى خرافات مشحونة بالسلطة والتأثير، وتصبح أدوات لتوجيه الجماعات، وتبرير الانتظار، وربما تبرير الأعمال العنيفة باسم المعتقدات. إن دراسة هذه الظاهرة تظهر بجلاء أن الفكر البشري لا ينفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي ينمو فيه، وأن الأساطير ليست مجرد حكايات تروى، بل أدوات نفوذ وفهم للعالم. وبالعودة إلى جذور هذه الأساطير، يمكن القول إن كل محاولة لتقديمها على أنها واقع حتمي تتجاهل الطبيعة التاريخية والتراكمية للأسطورة، وتضع عالماً افتراضياً بدل النظر إلى العالم كما هو، بمزيجه من الظلم والفضائل، والتاريخ والواقع، والأمل والخيبة.
• ذ.محمد بوفتاس
باحث في الدين والفكر والمجتمع

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

المخرج السينمائي حكيم قبابي يعيش “يوما طويلا”

كلامكم-الرباط: محمد بلال عبر المخرج السينمائي حكيم قبابي