الصحافة المغربية من التوجيهات الملكية إلى الترافع المهني: نحو سلطة رابعة تحصّن القيم وتواجه التفاهة

الصحافة المغربية من التوجيهات الملكية إلى الترافع المهني: نحو سلطة رابعة تحصّن القيم وتواجه التفاهة

- ‎فيرأي
83
0

بقلم: إبراهيم أبهوش – صحفي مغربي

في سياق ظرفية دقيقة، تعيش الصحافة الوطنية على أعصابها عقب عرض مشروع إعادة تنظيم قانون المجلس الوطني للصحافة على المجلس الحكومي والبرلمان والمصادقة عليه بسرعة لافتة. وتطرح هذه اللحظة أسئلة حارقة من قبيل: أي سلطة رابعة نريد في مغربٍ راكم دروس الإنصاف والمصالحة، ويُصدّر تجربته الحقوقية إلى العالم؟ هل نريد إعلاماً يُصفق للسلطة أم يُراقبها؟ هل نريد صحافة تُعاد إنتاجها وفق منطق السوق، أم سلطة مستقلة قادرة على مساءلة القرار، وكشف الانحرافات، والتصدي للتفاهة التي تُهدد قيم المغاربة وتُشوه صورتهم؟
في هذه اللحظة المفصلية، نستحضر التوجيهات الملكية بمناسبة اليوم الوطني للإعلام والاتصال، التي أعادت تعريف الدعم العمومي للصحافة، لا كمنحة ظرفية، بل كاستثمار استراتيجي في الديمقراطية والتعددية وبناء رأي عام واعٍ. لكن هذا الدعم لن يحقق أهدافه ما لم يُحرر الإعلام من قبضة التحكم الاقتصادي، ومن منطق الإفلاس المؤسساتي، ومن هيمنة سوق الإشهار الذي يُعيد إنتاج الرداءة ويُقصي الجدية. فهل يُعقل أن يُمنح الدعم لمن يُنتج التفاهة ويُقصى من يُمارس الرقابة المهنية؟ وهل يمكن الحديث عن استقلالية مهنية في ظل تحكم اقتصادي في السوق الإعلامي؟
المعركة ليست قانونية فقط، بل قيمية أيضاً. لأن الإعلام اليوم لا يُواجه تحديات التمويل فحسب، بل يُواجه زحف التفاهة، وتغول المنصات التي تُعيد تشكيل الوعي الجماعي بمنطق الإثارة والسطحية. في هذا السياق، لا بد من سلطة رابعة تُمارس دورها كاملاً، بلا خوف من التقييد، ولا خضوع للابتزاز الاقتصادي، ولا تهميش في السياسات العمومية، ولا تهديد بحرمانها من الدعم العمومي.
في مغرب التحديات الكبرى بقيادة جلالة الملك، ضامن الحقوق وحامي إرادة الشعب، شهدت لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، وهي إحدى اللجان الدائمة المعنية بصياغة ومناقشة السياسات والقوانين المرتبطة بمجالات حيوية، نقاشات مكثفة حول مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة. هذا المشروع، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط المهنية والحقوقية، عُرض على اللجنة وصُودق عليه في وقت قياسي، مما دفع الهيئات المهنية إلى تكثيف جهودها الترافعية لتعديل بنوده وضمان استقلالية الصحافة وحرية التعبير. لقد تحولت هذه اللجنة إلى فضاء مؤسساتي حاسم في النقاش العمومي، لكنها كشفت أيضاً عن الحاجة إلى يقظة مجتمعية ومهنية دائمة لمواجهة أي محاولة لتقزيم دور الصحافة أو تهميشها.
في هذا السياق، جاءت المذكرة الترافعية التي قدمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان كوثيقة إصلاحية بامتياز، تُرفع لها القبعة، لما تضمنته من توصيات جريئة، ومواقف واضحة، وانحياز صريح لحرية الصحافة. لقد انتصرت هذه الوثيقة، بقيادة رئاسة المجلس وكل مكوناته، للنقابة الوطنية للصحافة المغربية وباقي الهيئات المهنية، وأعادت الاعتبار لنظام اللائحة، ولتكافؤ التمثيلية، ولتصحيح اختلالات المشروع الحكومي. إنها ليست مجرد رأي استشاري، بل إعلان حقوقي واضح بأن التنظيم الذاتي للصحافة جزء لا يتجزأ من البناء الديمقراطي، لا هامش يُدار من خارج المهنة.
وفي انتظار مذكرة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، يحضرنا واجب الإشادة بمذكرة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، التي تضمنت ملاحظات قيمة ومقترحات إصلاحية مهمة للمشروع.
اليوم، يمكن للزملاء والزميلات أن يرفعوا رؤوسهم بفخر، لأنهم حصدوا ثمرة كفاحهم، وانتصروا لقيمهم، وأثبتوا أن الترافع المهني ليس ترفاً، بل ضرورة وطنية. لكن الفخر وحده لا يكفي. فالمعركة مستمرة، من أجل إعلام يُحصّن القيم، يُواجه التفاهة، ويُعيد الاعتبار للصحافي كمواطن فاعل، لا مجرد ناقل للمعلومة.
وأخيراً، لا بد للحكومة أن تتحلى بشجاعة الإنصات والحوار، وتسجل انتصاراً للحق في المشاركة في تدبير قطاع حيوي يشكل قطب الحياة الديمقراطية ببلادنا، وتعمل على سحب مشروع القانون وإعادة تعديله وتصحيحه بناءً على توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان وآراء الهيئات المهنية، وكل الغيورين على مستقبل وطننا المتقدم على المستوى العالمي، حتى نضمن أننا فعلاً نحترم أسمى المواثيق القانونية، وعلى رأسها دستورنا الوطني الذي حدد المهنة ككيان خاص بالمهنيين في إطار التنظيم الذاتي.
نريد، كمهنيين وناشرين، تصحيح المسار، لا فقط من خلال ما تحقق، بل من خلال استحضار تجربة النشأة والتطور، وتصحيح الأخطاء، والسير في اتجاه يضمن المساواة والكرامة لجميع الصحافيين والناشرين. فأهل مكة أدرى بشعابها، والمهنيون قد يختلفون في ما بينهم، لكنهم يتحدون دوماً حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية المصيرية الكبرى، وبصون كرامتهم، وحماية مهنتهم، والدفاع عن استقلاليتهم.
فهل من منصت عاقل وحكيم؟

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

الصحة والتعليم.. مسلسل تركي بدون نهاية؟

بقلم: نورالدين بازين كل عام كيتعاود نفس “المونولوغ