خريبكة: سعيد العيدي
لا يمكن للمتجوّل في شوارع المدن المغربية الكبرى، أن تفوته ملاحظة تواجد العدد الكبير لمُمارسي التسوّل. أطفالٌ وشباب وشيوخ، نساء ورجال، مغاربة وأجانب من دول جنوب الصحراء، ينتشرون في مراكز الجذب، وتقاطعات الطرق. قليلة هي الإحصاءات الرّسمية حول عدد محترفي التّسول، لكن الوجود المكثف لهم في الشّوارع، يقدّم صورة معبّرة قد تغني عن الأرقام. ويشكل غياب دراسات ومعطيات إحصائية محيَّنة حول التسول بالمغرب عائقاً كبيراً أمام إرساء فعلٍ عمومي قادرٍ على محاربة هذه الظاهرة بشكل فعال. وأيضا أمام السياسات العمومية الرامية إلى محاربة هذه الظاهرة بشكل فعال، حيث قدّرت بعض الجهات عددهم بما يزيد عن 200 ألف متسوّل، فيما تشير إحصائيات أحدث إلى بلوغهم نحو نصف المليون، مما يضع المغرب ضمن الدول الأكثر انتشاراً لهذه الظاهرة.
فهل التسول في المغرب حرفة مربحة أو إكراه واضطرار؟ حيث ندّد المغاربة بانتشار ظاهرة التسول التي تحوّلت إلى مهنة تدرّ ربحا ماديا كبيرا عن طريق الاستغلال والاحتيال والمغالطة، خصوصا في المدن التي تعرف تنافسا بين المتسولين حول الأماكن الأكثر رواجا والتي أصبحت أصولا تجارية توفّر لهم أموالا داعين في الوقت ذاته إلى ضرورة تكثيف الحملات والمراقبة الأمنية لمكافحة هذه الظاهرة والحد منها.
إن ظاهرة تسوّل الأطفال القاصرين أصبحت بالفعل من المشاهد المؤلمة التي تكتسح عدة مدن مغربية منها مدينة خريبكة المنجمية، وهي ظاهرة مركبة ومعقدة تعكس خللاً في أكثر من مستوى: الاجتماعي، الاقتصادي، وحتى القانوني. ناجمة عن الفقر المدقع، والتخلي الأسري، وتدهور منظومات الحماية الاجتماعية. هذا كله بالإضافة إلى عوامل بنيوية، مثل التغيرات العميقة في أنماط العيش والبنية الأسرية، وتغير القيم والآليات التقليدية للتضامن المجتمعي، مع وهن التّكافل الاجتماعي الذي كان يوفر للعاطلين عن العمل والأسر الأقل دخلاً دعماً بسيطاً من العائلة، وتخلّي الآباء عن الأطفال بعد الطلاق، وعدم قدرة الأم على الإنفاق عليهم، أو فقدان المعيل بالنسبة إلى النساء، مع تدني المستوى الدراسي لجلّ المتسولين.
يلحظ ضمن خارطة التسوّل، استغلال الرّضع والأطفال في التأثير على المارين، في ظروف طقس قاسية، في حرارة الصيف وبرودة الشتاء، مع الاستعمال المكثف في حالات ما للأدوية المنوّمة التي تخدِّر الرّضع طوال الوقت، وهو ما يؤدي إلى آثار مدمّرة على نموهم الجسدي والعقلي.
إن أول ضحايا التسوّل هم الأطفال، ويتم استغلالهم من طرف ذويهم، أو من شبكات متخصّصة تقوم بتأطيرهم وتوزيعهم على مناطق معينة، كأبواب المساجد والمقاهي والأماكن العمومية. وتبلغ نسبة الاستئجار بين مستغلي الأطفال في التسول، والعديد من هؤلاء الأطفال سيستمرون في التسول حتى بعد أن يصبحوا راشدين، أو سيستغلون آخرين في التسول، بمن فيهم الأطفال.
ومن ارتفاع وتنامي أشكال الظاهرة تجد أطفال يبيعون سلعا بسيطة كالعلكة، المناديل، أو المياه في الشوارع، تحت مبرر “الاسترزاق”. و أطفال يُدفعون من قبل أسرهم إلى التسوّل، إما بدافع الفقر أو الاستغلال. تم أطفال يمارسون التسوّل بمفردهم، أحياناً بدافع الحاجة، وأحياناً نتيجة الإهمال الأسري أو التفكك الأسري.
وتبقى من مخاطر هذه الظاهرة تواجد هؤلاء الأطفال عرضة للاستغلال الجنسي أو الجسدي أو الاقتصادي. مع إمكانية الوقوع في شبكات إجرامية تستغلهم كأدوات للتسوّل المنظم. وللتسرب والهدر المدرسي والضياع، ما يؤدي إلى استمرار دوامة الفقر والجهل.
وتبقى المسؤولية موزعة بين أربع مستويات تتقدمهم الأسرة، حيث في بعض الحالات، الأسرة هي المحرّك الأول لتسوّل الطفل مع غياب الوعي أو الفقر المدقع يدفع بالأهل إلى استغلال أطفالهم.
ثانيهم: الدولة، عن طريق التقصير في تفعيل قوانين حماية الطفل. و ضعف برامج الرعاية الاجتماعية والتعليم الإجباري. وغياب حملات الرقابة على الشارع والأسواق.
ثالثهم: المدرسة والمجتمع المدني: بسبب غياب التوعية واحتواء هذه الفئة. وضعف التنسيق بين المدرسة والأسرة لرصد حالات الأطفال المعرضين للخطر.
رابعهم: الجمعيات التي تعنى بالطفولة بالرغم من محدودية إمكاناتها وافتقار بغضها للدعم الحكومي الكافي. ونقص في التنسيق بينها وبين الجهات الرسمية.
وعن إيجاد الحلول الممكنة وجب تفعيل قوانين حماية الطفل ومتابعة تنفيذها على الأرض. مع فرض تعليم إلزامي مجاني وضمان الالتحاق المدرسي. وإنشاء مراكز اجتماعية لإيواء الأطفال المشردين وتوفير بيئة بديلة عن الشارع. مع ضرورة توعية الأسر عبر الإعلام والمراكز الاجتماعية. وتمكين الجمعيات النشيطة في المجال بالموارد والدعم القانوني. لكون أن الطفل المتسوّل ليس مجرماً، بل ضحية. وبالتالي فالمسؤولية لا تقع على طرف واحد فقط، بل على المجتمع بأكمله.
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب إرادة سياسية حقيقية، ووعي مجتمعي، وتكامل أدوار بين الدولة والمجتمع المدني والأسرة. وأمام استمرار التحديات التي تطرحها ظاهرة التسول، فإن المقاربة المعتمدة حاليا على الصعيد الوطني في مجال محاربة التسول غير ناجعة بالقدر الكافي.
أما على صعيد المقاربة الزجرية، فإن تجريم المُشَرِّع المغربي للتسول والتشرد على مستوى الفرع الخامس من مجموعة القانون الجنائي يتسم بمحدودية فعليته وبكونه يتناقض مع مقتضيات أخرى من هذا القانون ويتنافى مع المعايير الدولية ذات الصلة الجاري بها العمل.
لدى وجب حماية الأشخاص في وضعية هشاشة من الاستغلال في التسول”، من خلال تشديد العقوبات على الجنح والأفعال الجنائية التي يتم ارتكابها تحت غطاء التسول، طبقاً لمقتضيات القانون الجنائي، بالوقاية من التسول”، من خلال تعزيز قدرة الأُسَر على الصمود اجتماعياً واقتصادياً، وذلك عبر محاربة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية وتحسين الولوج إلى الخدمات الصحية والتعليم والتكوين والشغل.
مع تحقيق هدفين، هما ضمان احترام مقتضيات الدستور، لاسيما في ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأشخاص في وضعية تسول، دون أي تمييزٍ أو وَصْمٍ، وضمان احترام النظام والأمن العام
وإذا كانت ظاهرة تسول الأطفال في المغرب هي قضية معقدة ومؤرقة للسلطات العمومية والمسؤولين وفعاليات المجتمع المدني فإنها تتطلب حلولاً شاملة تشمل تقوية آليات حماية الطفولة، وتكثيف برامج الدعم الاجتماعي والاقتصادي للأسر الهشة، وتشديد العقوبات على مستغلي الأطفال في التسول، بالإضافة إلى تنزيل استراتيجيات وطنية موحدة لمكافحة هذه الظاهرة.
مع توصيات بتشديد العقوبات على الشبكات التي تستغل الأطفال والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة بنسبة 12 في المئة، والمسنين من أجل كسب أرباح عبر استغلالهم في التسول، وكذا ممارسي التسول المهني الذين يهدفون إلى الربح، وليس إلى سد حاجياتهم.
والمطالبة بعقد مناظرة وطنية تحضرها جميع الأطراف المعنية المسؤولة، المباشرة والغير المباشرة مع مناقشة الظاهرة من جميع الزوايا لمعالجة آثارها الظاهرة والخفية، والبحث عن حلول استعجالية بديلة. وذلك من أجل مجتمع متماسك خال من التسول، مع تقوية برامج حماية الطفولة من أجل تحقيق الضمان الاجتماعي لحماية الأطفال من العنف والاستغلال بشتى أنواعه ولا سيما الاستغلال الجنسي والدعارة والسياحة الجنسية للأطفال، لا سيما وأن المغرب مقبل في السنوات المقبلة على احتضان تظاهرات كروية عالمية أهمها كأس إفريقيا للأمم وكأس العالم 2030 وستعرف توافد العديد من السياح والأجناس على مختلف مشاربها وجنسياتها ومدى تأثير هذه الظاهرة على التزامات المغرب الدولية في مجال حماية الطفولة.