نور الدين بازين/مونتاج:ط.أعراب
في لحظة إنسانية مؤثرة، وقف ناصر الزفزافي، المعتقل على خلفية أحداث “حراك الريف”، ليودّع والده الراحل أحمد الزفزافي، بكلمة قصيرة لكنها مشحونة بالرموز والدلالات. الكلمة، وإن جاءت في سياق جنازة، حملت في طياتها رسائل سياسية مبطنة تتجاوز اللحظة الحزينة نحو أفق أوسع من النقاش حول الوطن والمصالحة.
الزفزافي افتتح حديثه بشكر المندوبية العامة لإدارة السجون، قائلاً: “بفضل الله ثم بفضل مندوب السجون الذي قام بعمل جبار أنا اليوم حاضر في جنازة أبي.” هذا التصريح، الذي بدا للوهلة الأولى مجرد تعبير عن امتنان إنساني، تحوّل في قراءات متعددة إلى إشارة سياسية لها وزنها، إذ يعكس اعترافًا ضمنيًا بإمكانية بناء جسور ثقة جديدة بين مؤسسات الدولة والمعتقلين، على أساس الاعتراف المتبادل والتقدير المشترك.
لكن البعد الأهم في كلمة الزفزافي تجلّى في رسالته التي شدّد فيها: “نحن كلنا أبناء الوطن بصحرائه وشماله وجنوبه وشرقه وغربه، لمصلحة هذا الوطن ولا شيء غير الوطن.” وهنا، بدا الخطاب وكأنه انتقال من منطق الاحتجاج الضيق إلى لغة الوحدة الوطنية، حيث لم يكن ذكر الصحراء أولاً مجرد صدفة لغوية، بل تأكيدًا على الالتقاء حول القضايا الكبرى التي تُعتبر حجر الزاوية في الإجماع الوطني.
وبين سطور هذا التصريح، يمكن تلمّس ثلاث رسائل واضحة:
أولها، رسالة وحدة، تؤكد أن الريف ليس استثناءً، بل جزء لا يتجزأ من الوطن الكبير. وثانيها، رسالة تجاوز الخلافات القديمة، بإشراك جميع جهات البلاد في خطاب جامع يتجاوز الجهوية والتموقعات الاحتجاجية. أما الرسالة الثالثة، فهي دعوة ضمنية للمصالحة التاريخية، عنوانها “الوطن أولاً”، بما يحفظ كرامة المواطنين ويوفر أرضية مشتركة لمستقبل أكثر استقراراً.
الكلمة إذن لم تكن مجرد وداع أبوي، بل تحولت إلى خطاب وطني بامتياز، يزاوج بين الحزن الشخصي والوعي الجماعي، ويعكس تطورًا في خطاب ناصر الزفزافي من لغة الصدام إلى لغة الانفتاح على أفق المصالحة. وبين الدموع والرمزية، بدا وكأنه يعلن أن اللحظة الإنسانية قد تكون مدخلاً للحوار السياسي، وأن الوطن هو الجامع الذي لا يُقصي أحداً.
في النهاية، هل ستلتقط الدولة والفاعلون السياسيون والحقوقيون خيط هذه الرسالة المبطنة، لتحويلها إلى مدخل فعلي لطي صفحة من التوتر، وفتح أخرى عنوانها الاعتراف والإنصاف والمصالحة في حضن وطن واحد؟