بقلم: ذ. محمد بوفتاس
حين دخل رجال الدين السياسة، لم يزدهر الدين ولم تزدهر السياسة، بل سقط الاثنان معًا في مستنقع التوظيف المتبادل. السياسة فقدت عقلانيتها، وانحرفت عن غايتها المتمثلة في إدارة الشأن العام بالمصلحة والتفاوض والمحاسبة، أما الدين ففقد صفاءه الروحي وأخلاقيته، وتحول إلى أداة لتبرير القرارات وتجميل وجوه السلطة. لقد جرى استدعاء المقدس في صراع المصالح، وتحويل النصوص إلى رصاص يوجه نحو الخصوم، فصار المعارض خائنًا أو خارجًا عن الجماعة، وصار الخطأ السياسي مجرد اجتهاد شرعي تُغفر زلاته باسم الضرورة.
التاريخ، في صيغته الطويلة، يقدّم شواهد لا تنتهي على هذا التداخل المفسد. في كل محطة كان رجل الدين يقف بجوار السلطة، يمنحها شرعية لغوية ولاهوتية، بينما السلطة تمنحه امتيازات مادية ورمزية، وينتج عن ذلك تحالف يلتهم المجتمع من الداخل. الناس يتحولون إلى رعية مطيعة لا تُمنح حق السؤال أو المحاسبة، وكل محاولة للنقد تُصوَّر تهديدًا للدين في جوهره، وكأن الدين لا يقوم إلا إذا ظل حارسًا لامتيازات الحاكم ورجال الفتوى. بهذا الشكل لم تُقمع السياسة فحسب، بل أُفرغ الدين من محتواه الأخلاقي العميق ليصبح مجرد خطاب يبرر الأمر الواقع.
ومع دخول العصر الحديث وتشكّل الدولة الحديثة ظن كثيرون أن الأمور ستتغير، وأن العقل سيستعيد مكانته في إدارة الشأن العام، بينما يعود الدين إلى مجاله الطبيعي كقوة روحية وأخلاقية. لكن المشهد سرعان ما خيّب هذه التوقعات. رجال الدين عادوا بوجه جديد، عبر أحزاب رفعت شعارات الإصلاح والعدل والمساواة، وادعت أنها تمثل الضمير الأخلاقي للأمة. غير أن التجربة أثبتت أن هذه القوى لم تكن في العمق سوى امتداد للماضي نفسه بوسائل حديثة. فما إن وصلت بعض هذه الأحزاب إلى السلطة حتى مارست نفس اللعبة: استعملت النصوص الدينية كسلاح سياسي، وجعلت معارضيها أعداءً لله لا مجرد منافسين، وخلطت بين الشرعية الانتخابية والشرعية الدينية لتصنع حول نفسها هالة من القداسة تحميها من النقد والمحاسبة.
المؤسسات الدينية الرسمية بدورها لم تفلت من هذا التوظيف. فهي لم تعد مجرد مؤسسات تعليمية أو وعظية، بل تحولت إلى أدوات بيد الدولة، تشرعن سياساتها وتشيطن خصومها. وبينما كانت بعض الأحزاب المعارضة ترفع شعار “الإسلام هو الحل” لتصل إلى الحكم، فإنها حين وصلت لم تختلف كثيرًا عن خصومها: استعملت الدين كدرع أيديولوجي لقمع المعارضة، واعتبرت النقد خيانة لله قبل أن يكون اختلافًا في البرامج. هكذا وُلدت حلقة جهنمية يتكرر فيها المشهد: كل طرف يوظف الدين ليحمي سلطته، والنتيجة فساد مضاعف، وسياسة محصنة بقداسة زائفة، ودين مُستنزف يُستهلك في المعارك الحزبية.
لقد أثبت التاريخ الحديث، كما أثبت القديم، أن خلط الدين بالسياسة لا يؤدي إلا إلى خراب مزدوج: سياسة تفقد عقلانيتها ومرجعيتها المدنية، ودين يفقد عمقه الأخلاقي ويتحول إلى خطاب تبريري. المجتمعات التي سارت في هذا المسار وجدت نفسها عالقة بين سلطتين متحالفتين: سلطة سياسية تسعى إلى الدوام بأي ثمن، وسلطة دينية توفر الغطاء اللاهوتي لهذا الدوام. والنتيجة شعوب تُربى على الطاعة، تُدجَّن على الانتظار، وتُحرم من حقها في المشاركة الحرة وصناعة القرار.
الخروج من هذا المأزق التاريخي لا يتحقق إلا بقطع هذا التحالف جذريًا، بأن تُدار السياسة وفق منطقها الطبيعي: العقل، المصلحة العامة، المحاسبة، وتُترك للدين وظيفته الأصلية: تقوية الضمير الفردي، وإضفاء البعد الأخلاقي على الحياة، وبناء المعنى. كل محاولة للجمع بين المجالين لم تنتج سوى التشويه المزدوج: دين بلا معنى، وسياسة بلا روح. وإذا كان ثمة درس أخير يلخص قرونًا من التجربة، فهو أن تحرير السياسة من عبودية القداسة وتحرير الدين من تلوث الصراع على السلطة، شرط أول لكل نهضة حقيقية.
• ذ. محمد بوفتاس
باحث في الفكر والدين والمجتمع