بقلم: محمد حفيظ
اتصل بي عدد من الأصدقاء يستفسرون عن سبب المنشور الذي كتبته على صفحتي مساء أمس، والذي قلت فيه إن “عبد الإله بن كيران كَذَّاب”. منهم من استغرب أن يصدر عني هذا الوصف المباشر، لأنه لم يعهده في أسلوب كتابتي. ومنهم من استغرب أنني تأخرت في إطلاق هذا الوصف على الموصوف به.
لو كان الأمر يتعلق برأي أو تحليل أو فكرة أو تصور، لما كنت انشغلتُ لا بالرجل ولا بقوله، خاصة أن ما يصدر عنه لم يعد يفيد في شيء، لا البلاد ولا العباد، بعدما جَرَّبَتْه الدولة ولفظته، وقاسى المجتمع وما يزال من قراراته لما كان على رأس الحكومة.
لكن الأمر يتعلق بخبر وإخبار. والخبر يُعَرَّف، في علم اللغة والمنطق، بأنه ما يحتمل الصدق أو الكذب. والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع أو ادعاء شيء غير صحيح، مع علم من يقوم به بأن ما يتم الإخبار به أو ادعاؤه غير صحيح.
ولأن الرجل يصر على الكذب ويكذب بإصرار، فقد استعملتُ صيغة المبالغة “كَذَّاب”، التي تعني الشخص الذي يُكثر من الكذب ويكرره. ومعلوم أن صيغ المبالغة، في اللغة العربية، تُستعمل للدلالة على من قام ويقوم بفعل ما بكثرة وتكرار أو اتصف ويتصف به اتصافا شديدا.
والأخطر أن هذا الشخص يَكذب على الأحياء، وهو يعلم أنهم أحياء وبإمكانهم أن يكشفوا كذبه. بل حتى الأموات لم يعد بالإمكان اليوم الكذب عليهم، لأن كل ما يحدث الآن أو يقال يُوثَّق ويُحفَظ ولا يمكن محوه أو تزييفه.
وبفعل تكرار الكذب، أصبح الرجل يُصَدِّق ما يصدر عنه، ويُوهِم نفسه بأن ما يقوله صحيح ويتعامل معه باعتباره هو الواقع، حتى أصبح هو نفسه ضحيةَ كذبه بفعل الإدمان عليه، ووصل إلى ما يُعْرَف في علم النفس بـ”الكذب المرضي” أو “الوهم الذاتي”. يصر على أنه هو من أنقذ البلاد والعباد من الخطر الذي كان مُحْدقا بها وبهم، ويوهم نفسه، قبل أن يوهم أتباعَه أو من يتوجه إليهم بخطابه المكرور، بأنه هو من أنقذ الملكية من السقوط الوشيك، ويعلن بأنه هو المؤهل اليوم لحماية الدولة والمجتمع !!
وتحتد حالة الرجل، كلما اقتربت الانتخابات. يجن جنونه، ويصيبه هيجان شديد، ويغلب في ما يصدر عنه تصرف “الحيوان السياسي” على سلوك “الإنسان العاقل”. يطلق الكلام على عواهنه، يتكلم في كل شيء، في الحاضر والماضي وحتى المستقبل، في الدنيا والآخرة، يعرف ما على الأرض ويعلم ما في السماء، يدعي البطولة؛ فيتظاهر بالشجاعة وينسب لنفسه كل الفضائل، ويتقمص دور الضحية؛ فيلجأ إلى خطاب المظلومية والتباكي، يقول الشيء ونقيضه؛ فلا يَثبت على رأي واحد أو على تحليل منسجم، … إلى غير ذلك مما يزيد من الإساءة إلى صورة المشهد السياسي، ويصيب الناس بالاشمئزاز والغثيان الذي يؤدي بهم إلى القرف من السياسة والنفور من السياسيين وعدم الثقة فيهم.
وهذه دواعي “البوست” الذي وضعته مساء أمس على صفحتي؟
قبل يومين، وفي كلمة له خلال ندوة صحافية نظمها حزبه لتقديم مقترحاته المتعلقة بالانتخابات التشريعية المقبلة، تحدث عبد الإله بن كيران عن انتخابات 1997. وفي معرض كلامه عن التزوير الذي شهدته تلك الانتخابات، أثار واقعة المقعد البرلماني المزور الذي رفضتُه قبل 28 عاما. ذَكَرني بالاسم أكثر من مرة، مثلما ذكر الأخ محمد الساسي والمرحومين عبد الرحمان اليوسفي ومحمد أديب.
لقد اعتاد، في كل مناسبة يتحدث فيها عن مشاركة إخوانه في تلك الانتخابات، على أن يَذكر التزوير الذي شابها. وكان دائما يعطي المثال بالمقعد المزور الذي رفضته. كان يقدم ذلك بالصورة التي يريد، أو بالأحرى بالصور التي يريد؛ إذ كل مرة يقدم رواية بصيغة تختلف عن الصيغة أو الصيغ السابقة؛ مرة يزيد، ومرة يحذف، مرة يُوَسع، ومرة يُضَيق…
لكن المثير هذه المرة هو أنه ادعى أنه هو السبب الذي كان وراء رفضي للمقعد المزور!! وهذا كلامه بالحرف: “تَيْكْذْبُوا الناس اللي تيقولو بللي سي حفيظ ولا سي أديب دارو هادشي من عند أنفسهم.. غير صحيح.. هادشي هذا اللي كان السبب ديالو هو عبد الإله بنكيران”!!
يا سلام!! الرجل، من زمان، له قدرة خارقة على الزعامة (بالعربية الفصحى وبالدارجة)، حتى على غير أعضاء حزبه. منذ 28 سنة، كان يستطيع أن يصدر الأوامر لمناضلي أحزاب أخرى، وما عليهم إلا أن يذعنوا له مذعورين، فيسرعون إلى تنفيذها على الفور!! نعم، كانت له القدرة حتى على إجبارهم على رفض مقعد برلماني في عهد الحسن الثاني وفي زمن وزير داخليته إدريس البصري الذي “خَبِرَ” بن كيران قوته آنذاك!!
وأرجو أن يعذرني الأصدقاء والقراء إن أثقلت عليهم بنقل ما تفوّه به، حتى لا يثقلوا على أنفسهم بالاستماع إليه. يضيف قائلا بالحرف:
“تْلاقِيت أنا وسي محمد الساسي، وهو صديق ديالي قديم، ودابا كيظهر بْدّل الرأي ديالو.. تلاقينا فالإذاعة المغربية كنتكلمو يعني فندوة دايراها ال bbc. قُلتْ لو أسي أسي الس.. السا.. الساسي (الحمد لله ماشي السيسي)، سي الساسي راه راه راه المقعد ديال حفيظ ديالنا ماشي ديالكم.. حيت حنا ديك الساعة عندنا المحاضر.. مشى سي الساسي عند سي حفيظ قالْ لُو آش قال ليا سي بنكيران. قالْ لُو عندو الحق.. مشاو بزوج عند سي عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله رحمة واسعة، الرجل الذي أُجِلُّه كثيرا، وقالْ لُو راه هاذ هاذ هاذ المقعد راه ماشي ديالنا راه ديال العدالة والتنمية، فهمتيني ولا لا، وفالأخّر اتَّفْقو باش أَوْ لا قَرُّو هوما باش يعلنوها، وعلنوها حقيقة، وهذه شجاعة. وتْبْعْهُم أديب. هذاك حفيظ ما تخلصش.. ما تخلصش فالفلوس ديال ديال أسميتو، وأديب تخلص، فهمتيني ولا لا، بقى تيتخلص شي سنوات حتى حتى حتى تعاودات الدائرة ديالو”.
هو قال للساسي. والساسي قال لي ما قال هو له. وأنا قلت للساسي إن ما قاله هو له صحيح. وأنا والساسي قلنا لليوسفي ما قاله هو للساسي وقاله لي الساسي!!! فحدث ما حدث!!! (معذرة على هذا التعبير المزعج المليء بـ”القَوْلَلَة”؛ فهو يعود إلى صاحبه بن كيران الذي أصبح زعيما للقَوْلَلَة بلا منازع).
الحكاية كلها فيها هو والساسي وأنا. وبما أن بن كيران ينقل ما جرى بيني وبين الساسي حين قال إن الساسي جاءني وأخبرني بما قاله بن كيران للساسي وإنني قلت للساسي إن ما قاله بن كيران صحيح، فإن عليه أن يَذْكر السند ويُخبر بمن نقل إليه ما يدعي أنه جرى بيني وبين الساسي. وبما أنه لم يكن ثالثَنا حين نقل لي الساسي كلامَه، فإما أن الساسي هو من نقل له ما جرى بيني وبينه، وإما أنني أنا من فعل ذلك!!
لقد سبق لي أن رَدَدْتُ، قبل 12 سنة، على تصريح سابق لابن كيران أطلق فيه كلاما غير صحيح ومجانبا للحقيقة، وإن لم يصل فيه إلى هذه الدرجة القصوى من الادعاء والزيف والبهتان والزور والدجل… (بالمناسبة، هذه كلها كلمات مرادفة لكلمة “الكذب”). ونشرتُ ردي حينها هنا على صفحتي على الفيسبوك (بتاريخ 3 شتنبر 2013)، وفي يومية “أخبار اليوم المغربية” التي كانت نشرت التقرير الذي تضمن كلامه الكاذب. وكان عنوان ردي: “إلى السيد عبد الإله بنكيران: كن شاهدا أمينا لا شاهدا “مُزَوِّراً”.
وقبل ذلك وبعده، كنت تحدثت عما جرى في انتخابات 1997 في حوارات، مع عدد من المنابر الصحافية والإعلامية، بعضها مكتوب، وبعضها سمعي – بصري، بعضها أجري خلال الأيام التي تلت مباشرةً ذلك الحدث، وبعضها أجري بعد ذلك في سنوات لاحقة.
وخصصتُ حيزا لهذه الواقعة في كتاب “اليوسفي كما عشناه: أوراق من زمن السياسة”، الذي أصدرناه، الصديق أحمد بوز وأنا، قبل أربع سنوات (2021). وحكيتُ بضمير المتكلم تفاصيل ما وقع (يمكن الرجوع إلى الكتاب من ص 289 إلى ص 300)، وذكرت أسماء جميع الذين عاشوا معي لحظاتها. وبالمناسبة، فإنهم جميعهم ما زالوا على قيد الحياة، باستثناء الأستاذ الفاضل، أستاذي وصديقي وزميلي المختار بنعبد لاوي الذي غادرنا قبل سنة.
لكن السيد بن كيران استمر في الكذب، رغم الرد عليه، ورغم استعراض الوقائع كما جرت في المكان والزمان، وذكر أسماء من عاشوها وتابعوا تفاصيلها عن قرب.
الرجل مصر على تكرار الكذب، حتى صدَّق كذبه وأصبح يتوهم أنه حقيقة. ويبدو أن الأمر يتعلق بحالة تحتاج إلى المعالجة والعلاج خارج السياسة.
الرجل يعيش في وهم الحاجة إليه، فَيُجْهِد نفسه في عرض مؤهلاته لإسداء خدمات لم يُطلب إليها. يظن أنه مازال مرغوبا فيه للقيام بأدوار ما. يتوهم أن لديه من المقومات ما يجعله مطلوبا لإسداء “الخدمات الجليلة” للدولة. والحال أنه لم يعد صالحا حتى لحزبه، فأحرى أن يصلح للدولة.
يظن أن بإمكانه أن يسبح في النهر مرتين. ربما لا يدرك أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أعادها، فلا يكون إلا ملهاة أو مأساة. وبلادنا في غنى عن كليهما، فواقعها لا يحتمل لا الملهاة ولا المأساة.