حين دخل رجال الدين السياسة… ماتت السياسة وفسد الدين

حين دخل رجال الدين السياسة… ماتت السياسة وفسد الدين

- ‎فيرأي
188
التعليقات على حين دخل رجال الدين السياسة… ماتت السياسة وفسد الدين مغلقة

بقلم: ذ. محمد بوفتاس

1. ما قبل الدولة المدنية الحديثة

منذ اللحظة الأولى التي مدّ فيها رجال الدين أيديهم نحو السلطة، تغيّر وجه التاريخ. لم يولد العدل، ولم يترسخ ميزان القسط، ولم ترتفع منسوب الأخلاق، بل ولد نوع جديد من الاستبداد: استبداد مكسو بالقداسة، ومحصّن بخطاب يزعم أنه “إرادة السماء”.
السياسة، في جوهرها، فن إدارة الممكن، قائمة على التفاوض والمساومة وتوازن القوى. مجالها بشري نسبي، مفتوح على الخطأ والصواب، متأرجح بين النجاح والفشل. أمّا الدين، في أصله، فمجاله مختلف تمامًا: منظومة قيم وأخلاق، غايته تهذيب النفس وإيقاظ الضمير وتذكير الإنسان بمعنى العدالة. لكن حين جلس رجل الدين بجوار السلطان، أو حين ارتقى المنبر بلسان السياسة، انقلبت الموازين، وانكسرت الحدود الفاصلة بين ما هو دنيوي وما هو سماوي.
الفتوى، التي كان يُفترض أن تكون سلاح المظلوم في وجه طغيان الحاكم، تحوّلت بسرعة إلى ختم مطاطي على قرارات السلطان. كلمات الحق التي كانت تُطلق في وجه الجور صارت بيانات رسمية تبارك الاستبداد وتشرعن الدماء والضرائب والمظالم. فجأة، الطاغية أصبح “ولي أمر تجب طاعته”، والمعارض الشريف صار “مثير فتنة” أو “خارجًا عن الجماعة”. بهذا الانقلاب، لم يُستعمل الدين لضبط السلطة وردعها، بل استُعمل لضبط الناس وتطويعهم لصالحها.
في تلك العصور، تغيّر لسان الفقيه: لم يعد يتحدث بلغة المبادئ أو النصوص الجامعة، بل بلغة الحسابات الصغيرة، مصلحة الكرسي والجاه والمنصب. لقد غدت العمامة درعًا تحمي المستبد، وصارت المحبرة أداة لتبرير الظلم. لم يعد الدين بوصلة الضمير، بل مطية الحكم، يركبه السلطان متى شاء لينزل به على رؤوس معارضيه.
وهنا ظهرت مفارقة مرعبة: أي نقد للسلطان صار يُعتبر طعنًا في الدين ذاته، وأي ثورة ضد الظلم صارت تُوصم بالخروج على الشريعة. فُقدت القدرة على التمييز بين “الله” و”السلطان”، وبين “الطاعة لله” و”الولاء للحاكم”. وهكذا تحولت السياسة إلى عبودية مقنّعة، والدين إلى قفص ذهبي يحرس سلطة الفساد.
إن أخطر ما أنجزه هذا التحالف المظلم بين الفقيه والسلطان هو صناعة “الحاكم المعصوم عمليًا”، ذلك الذي لا يُنتقد لأنه محاط بهالة دينية، ولا يُحاسب لأن عصيانه يُعتبر عصيانًا لله ذاته. لقد أصبح الدين مظلة تقي الاستبداد من كل عاصفة، وجدارًا يحميه من كل معارضة. والناس، بدل أن يكونوا مواطنين شركاء في تدبير شؤون بلدهم، صاروا “رعية” تنتظر الأمر من الحاكم والفتوى من الشيخ، فلا مساءلة ولا تعددية ولا حتى حق في الاختلاف.
لقد كان هذا أخطر انحراف في تاريخ الاجتماع السياسي: أن يتحوّل الدين من قوة أخلاقية تصون المجتمع من ظلم السلطان، إلى أداة بيد السلطان يجلد بها المجتمع. في تلك اللحظة، ماتت السياسة، لأنها فقدت جوهرها القائم على الاختلاف والمساءلة، وفسد الدين، لأنه فقد روحه التحررية، وأصبح مجرد لغة خشب تزين الاستبداد وتخنق الحرية.

*باحث في الفكر والدين والمجتمع

يمكنك ايضا ان تقرأ

رسميًا: دخول قانون العقوبات البديلة حيز التنفيذ بالمغرب

طارق اعراب دخل اليوم الجمعة 22 غشت 2025،