بقلم: أنس غفاري
يحب كثيرون أن ينظروا إلى المنطق باعتباره البوصلة التي لا تخطئ، والأداة التي تقود إلى الصواب متى ما كانت المقدمات صحيحة. هذه النظرة تمنح شعورًا بالطمأنينة، إذ توحي بأن العقل قادر دومًا على رسم الطريق. لكن القرآن الكريم قدّم درسًا خالدًا: المنطق – مهما بدا متماسكًا – يظل قاصرًا ما لم يُغذَّ بالحكمة والوحي.
في مشهد قرآني بالغ الدلالة، كان النبي ﷺ يخاطب سادة قريش طامحًا أن يفتح الله قلوبهم للإسلام، فإذا برجل أعمى وفقير – عبد الله بن أم مكتوم – يقطع حديثه ملتمسًا الهداية. المنطق البشري البسيط كان يقتضي التركيز على الزعماء، إذ إن إيمانهم قد يجر خلفه إيمان أتباعهم، والمعادلات العقلية كلها تؤيد هذا الخيار. لكن الوحي نزل عتابًا رقيقًا: «عبس وتولى، أن جاءه الأعمى». في هذا التوجيه تتجلى رسالة عميقة: الإسلام لا يرفض المنطق، لكنه يكشف حدوده ويضعه في موضعه الصحيح.
فالمنطق أداة استدلالية محكومة بما يُعطى لها من مقدمات. وإذا كانت هذه المقدمات ناقصة أو سطحية، قادت إلى نتائج قاصرة. لهذا حفلت قصص القرآن بنماذج تبرز محدودية المنطق الظاهر: موسى عليه السلام لم يستوعب أفعال الخضر، إذ بدت مخالفة للمنطق المباشر، لكنها كانت تجري بحكمة إلهية أبعد. وتحويل القبلة بدا مربكًا بمعايير السياسة والاجتماع، غير أنه كان قرارًا يؤسس لاستقلال الأمة ويمتحن ولاءها لله. وحتى معايير النصر والهزيمة لم تخضع يومًا لحسابات القوة والعدد، بل لمنطق آخر يجعل الضعفاء في قلب المعادلة: «هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم».
الخلاصة أن المنطق، مهما بدا صارمًا، ليس سوى أداة تعمل في حدود الظاهر، بينما يأتي الوحي ليضيف المقدمة الغائبة ويعيد تصحيح المسار.
وفي عالمنا الراهن، حيث تُرفع المعادلات المنطقية في السياسة والاقتصاد والفكر وكأنها مفاتيح مطلقة للحقيقة، يعيدنا القرآن إلى درس بليغ: المنطق مهم، لكنه ليس البوصلة النهائية. وحده التوازن بين عقل يحلل، وقلب يرحم، ووحي يكشف ما وراء الظاهر، هو ما يجعل الإنسان قادرًا على اتخاذ القرار الأصوب، حتى وإن بدا لأول وهلة “غير منطقي”.