بقلم: حسام بوزكارن
تصور نفسك تتابع سياسيا يتحدث عن العدالة الاجتماعية في خطاب عام، ثم يصوت في اليوم التالي لصالح قوانين تخدم مصالح رجال الأعمال. تتساءل: هل هذا تطور طبيعي أم انتهازية سياسية؟ هذا المشهد يختزل واقع النظام الحزبي المغربي اليوم، حيث تحولت الإيديولوجيا من بوصلة توجه السلوك السياسي إلى مجرد أداة تسويقية تستخدم حسب الحاجة.
هذا التلاعب بالمبادئ لا يصدر من فراغ. إنه نتيجة منطقية لأزمة هيكلية تعيشها الأحزاب المغربية، التي فقدت الرابط العضوي بين فكرها وممارستها، بين شعاراتها وسياساتها. حين تصبح السلطة هدفا في ذاتها وليس وسيلة لتطبيق مشروع مجتمعي، فلا غرابة أن نشهد هذا التآكل المستمر للثوابت الإيديولوجية.
حين يلبس الليبراليون ثوب العدالة الاجتماعية
التجمع الوطني للأحرار، هذا الحزب الليبرالي من يمين الوسط الذي أسسه أحمد عصمان في أكتوبر 1978، يقدم اليوم نموذجا صارخا للانتحال الإيديولوجي. فجأة، نجد هذا الحزب الذي بني على أسس ليبرالية واضحة يتحدث عن الدولة الاجتماعية كأنه ولد لهذا الغرض.
المفارقة تكمن في التاريخ السياسي للحزب نفسه. منذ تأسيسه، كان خطابه يركز على الحرية الاقتصادية وتقليص دور الدولة في التدخل الاقتصادي. اليوم، يحاول قادته إقناعنا أن مفهوم الدولة الاجتماعية كان دائما في صلب رؤيتهم السياسية. هذا ليس تطورا طبيعيا للفكر السياسي، بل محاولة لاستثمار شعار شعبوي دون امتلاك الأدوات الفكرية والسياسية لتطبيقه.
قيادة الحزب تدافع عن إصلاح قطاع التربية باعتباره من ركائز تفعيل الدولة الاجتماعية، وهو خطاب يحمل في طياته تناقضا واضحا. فكيف لحزب يؤمن بمنطق السوق أن يتبنى نموذجا اقتصاديا يقوم على التدخل الحكومي المكثف؟
هذا التناقض يعكس أزمة هوية عميقة. الحزب لا يريد أن يتخلى عن قاعدته الاقتصادية المؤلفة من رجال الأعمال والمستثمرين، لكنه في الوقت نفسه يسعى لكسب تأييد الطبقات الشعبية عبر شعارات العدالة الاجتماعية. والنتيجة هي خطاب مفكك يحاول إرضاء الجميع وينتهي بإقناع لا أحد.
العدالة والتنمية: حين تخون المبادئ الممارسة
يقف حزب العدالة والتنمية كنموذج مختلف للأزمة الإيديولوجية. هنا لا نتحدث عن انتحال إيديولوجيا جديدة، بل عن خيانة الإيديولوجيا الأصلية تحت ضغط الواقعية السياسية. الحزب الذي وصل للسلطة بخطاب إسلامي يركز على العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، وجد نفسه يطبق سياسات تناقض هذه المبادئ جذريا.
أوضح مثال على هذا التناقض هو قرار تحرير أسعار المحروقات. عبد الإله بنكيران نفسه أقر بأن الحزب دفع ثمنا باهظا جراء القرار الذي اتخذه عندما كان رئيسا للحكومة، المتعلق بتحرير أسعار المحروقات”. هذا الاعتراف يكشف عن مدى التناقض بين الخطاب والممارسة.
موزعو المحروقات ضاعفوا هامش أرباحهم مرتين والبعض الآخر 3 مرات بعد تحرير الأسعار، بينما المواطن العادي يعاني من الغلاء. هذا ليس مجرد خطأ في السياسة الاقتصادية، بل خيانة لجوهر الفكر الإسلامي الذي يحارب الاستغلال والاحتكار.
المشكلة أعمق من مجرد قرار سياسي خاطئ. إنها تعكس أزمة في فهم العلاقة بين المرجعية الإيديولوجية والممارسة السياسية. حين يصبح البقاء في السلطة أهم من تطبيق المبادئ، تتحول الإيديولوجيا إلى مجرد شعار أجوف يرفع في المناسبات وينسى في اللحظات الحاسمة.
هذا التناقض لا يضر بالحزب فقط، بل يضر بالفكر الإسلامي المعتدل نفسه. حين يفشل حزب إسلامي في تطبيق العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها، فإنه يساهم في تشويه صورة الإسلام السياسي ويقدم ذخيرة لخصومه.
الأصالة والمعاصرة: عندما يصبح التناقض هوية
حزب الأصالة والمعاصرة يقدم حالة فريدة في التاريخ السياسي المغربي. هنا لا نتحدث عن حزب تخلى عن إيديولوجيته أو انتحل إيديولوجيا جديدة، بل عن حزب بنى هويته على التناقض نفسه. الاسم يحمل في طياته إشكالية فلسفية عميقة.
كيف يمكن الجمع بين مفهومين متناقضين دون الوقوع في التلفيق الفكري؟
هذا التناقض ليس مجرد مشكلة لغوية، بل يعكس غياب رؤية فكرية متماسكة. الحزب يحاول أن يكون كل شيء لكل الناس، محافظ للمحافظين، حداثي للحداثيين، وسطي للوسطيين. والنتيجة، خطاب مطاطي لا يقدم موقفا واضحا من أي قضية جوهرية.
هذا المنطق ينم عن فهم خاطئ للسياسة. الاعتقاد أن الغموض الإيديولوجي يوسع القاعدة الانتخابية هو وهم كبير. الناخب يبحث عن يقين، عن موقف واضح، عن رؤية محددة للمستقبل. حين يجد حزبا يتحدث بلغة الألغاز، فإنه يفقد الثقة في قدرته على القيادة.
الأخطر من ذلك أن هذا النموذج يساهم في تعميق أزمة الثقة في النظام السياسي ككل. حين يرى المواطن أحزابا تتلاعب بالمفاهيم وتستخف بذكائه، فإنه يفقد الإيمان بجدوى المشاركة السياسية نفسها.
اليسار: بين الثبات والانحراف
في خضم هذا المشهد المأزوم، يبرز موقف الأحزاب اليسارية كحالة مختلفة تستحق التأمل. هنا نجد طيفا واسعا من المواقف، من حزب التقدم والاشتراكية الذي يحاول الحفاظ على خطه الإيديولوجي الأساسي، إلى أحزاب يسارية أخرى سقطت في فخ اليسار التبريري.
حزب التقدم والاشتراكية يقدم نموذجا للثبات النسبي على المبادئ. رغم التحديات الهائلة التي يواجهها اليسار على المستوى العالمي، ورغم الضغوط المحلية للتكيف مع منطق النيوليبرالية، يحافظ الحزب على خطابه الأساسي في الدفاع عن العدالة الاجتماعية وحقوق الطبقات الشعبية.
لكن هذا الثبات لا يعني الجمود. الحزب مطالب بتجديد أدواته الفكرية والسياسية ليواكب التحولات الاجتماعية الجديدة. التحدي الأكبر أمام اليسار المغربي هو كيفية الحفاظ على جوهره النضالي مع تطوير رؤية معاصرة تخاطب هموم الأجيال الجديدة.
في المقابل، نجد أحزابا يسارية أخرى وقعت في فخ ما يمكن تسميته اليسار التبريري. هذه الأحزاب تحاول تبرير سياسات السلطة تحت غطاء الواقعية السياسية أو النضج الديمقراطي. هذا التوجه لا يخدم لا اليسار ولا الديمقراطية، بل يساهم في تفكيك المعارضة الحقيقية وتعميق أزمة التمثيل السياسي.
الفرق بين النموذجين واضح، الأول يحاول التطوير من داخل الإيديولوجيا، بينما الثاني يتخلى عن الإيديولوجيا باسم التطوير. النتيجة أن النموذج الأول يحافظ على مصداقيته رغم صعوباته، بينما النموذج الثاني يفقد هويته وجمهوره معا.
المشكلة الحقيقية في النظام الحزبي المغربي تتجاوز مسألة التناقضات الإيديولوجية. إنها تكمن في غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى، وفي تحول السياسة من خدمة عامة إلى مهنة خاصة. حين تصبح الأحزاب مؤسسات للوصول إلى السلطة وليس لتطبيق مشاريع مجتمعية، فإن الإيديولوجيا تتحول بالضرورة إلى أداة تسويقية.
الخروج من هذا المأزق يتطلب إعادة تعريف جذرية لدور الحزب السياسي في المجتمع المغربي. أحزاب تقدم مشاريع واضحة ومتماسكة، تجمع بين الثبات على القيم والمرونة في الوسائل. أحزاب تخاطب العقل لا العواطف، وتقترح حلولا حقيقية لا شعارات جوفاء.
هذا التغيير لن يحدث من تلقاء نفسه. يحتاج إلى وعي شعبي متزايد بأهمية المحاسبة السياسية، وإلى نخب سياسية جديدة تضع المصلحة العامة فوق الطموحات الشخصية. فقط حينها يمكن للديمقراطية المغربية أن تتجاوز أزمة التمثيل الحالية وتبني نظاما حزبيا يستحق ثقة المواطنين.