هيئة التحرير
لا تُخفي مدينة مراكش، بوجهها الشمسي ودفئها التاريخي، ما يعتمل في شوارعها من خفوت في النبض السياحي، وما يهمس به الفاعلون في القطاع من أن المدينة التي كانت ذات زمن “قبلة السائح العالمي”، تعيش اليوم على وقع كسادٍ غير مسبوق. ففي ظل غياب الرواج وانكماش الإقبال، بدأت الأسئلة تتناسل، لا من الفاعلين وحدهم، بل من الزائرين أنفسهم: ما الذي يحدث في مراكش؟
أسعار خارج المنطق.. وخدمات لا تليق
أولى الإشارات التي يلتقطها السائح لحظة وصوله، هي ذلك التنافر بين السعر والجودة. فنُزل متواضعة بأسعار فنادق فخمة، ووجبات خفيفة تُقدّم في “مقاهٍ سياحية” بأسعار فنادق خمس نجوم، بل وحتى سيارات الأجرة “تُفاوض” على السعر كأن السائح دخل مزاداً مفتوحاً. واقع لم يعد السياح يقبلونه، خاصة حين يقارنون بين ما يُعرض عليهم هنا، وما يجدونه في وجهات منافسة مثل إسطنبول أو لشبونة أو حتى وجهات جديدة في إفريقيا جنوب الصحراء.
لكن الكارثة ليست فقط في السعر، بل في ما يُقابل ذلك من خدمات مهترئة: غياب علامات التوجيه، غياب مرشدين مهنيين، انتشار المضايقات، وتحول بعض الأحياء إلى أماكن تُنتهك فيها أبسط قواعد الاستقبال الإنساني، فضلاً عن ضعف النظافة في محيط بعض المعالم التاريخية.
ليل مراكش… متاهة من الفوضى وغياب الرقابة
لكن المثير فعلاً، ما لا يقال كثيراً، ويُهمس به بين السطور، هو الوجه الليلي لمراكش.
فمنذ منتصف الليل، تتحول بعض الفنادق المصنفة إلى “محاور عبور” نحو عالمٍ سفلي تذوب فيه الفواصل بين الترفيه والإجرام. علب ليلية تُروّج علانية لمشاهد لا تليق بصورة المدينة، ولا بسمعة السياحة المغربية. فتيات قاصرات يتسللن عبر بوابات خلفية، حفلات صاخبة تُدار خارج أي مراقبة، ومخدرات تمرر بذكاء متقن بين الفضاءات، وسط غياب يكاد يكون ممنهجاً للسلطات المكلفة بالمراقبة.
وقد عبر عدد من السياح، في تدوينات ومقاطع مصورة، عن صدمتهم مما عاشوه أو رأوه في ليالي المدينة. بعضهم تحدث عن انزعاجه من مشاهد “فوق الاحتمال”، وآخرون لمحوا إلى خوفهم على بناتهم وأبنائهم من الوقوع في فخاخ المنحرفين.
فيلات الضواحي… “الخصوصية” التي تخفي الكثير
الأمر لا يتوقف عند وسط المدينة أو شارع محمد السادس. الضواحي تحولت بدورها إلى مساحات موازية لـ”العبث الليلي”، حيث فيلات خاصة تُكترى بعشرات آلاف الدراهم، وتتحول إلى فضاءات تُدار خارج أعين الأمن والإدارة. صناع الفرجة من مختلف الجنسيات، شبكات وساطة، وأجواء تختلط فيها اللذة بالخطر. إنها مراكش التي لا تُرى… لكنها تكتب مصيرها بأيديها.
من السياحة إلى اقتصاد الظل
هذا التحول الخطير في طبيعة النشاط الليلي لمراكش، لا يؤثر فقط على صورتها، بل يُضعف البنية الاقتصادية الرسمية للمدينة. فالنشاط السياحي المنظم والمهيكل، الذي يضخ موارد مالية للدولة ولفاعلي القطاع، يتآكل تدريجياً أمام تصاعد اقتصاد ظل يُدر أموالًا طائلة خارج رقابة الضرائب أو القانون. تتغذى فيلات وشقق فاخرة خارج التصنيف السياحي على ليالٍ مدفوعة الثمن بـ”الكاش”، بعيدًا عن أي تصريح أو ضريبة، ما يخلق منافسة غير مشروعة تؤدي إلى إفلاس مهنيي القطاع الرسمي.
هل تفقد مراكش هويتها السياحية؟
السؤال المؤرق اليوم هو: إلى أين تسير مراكش؟ أهي بصدد التحول من مدينة سياحية راقية إلى مجرد “وجهة ليلية” تُختزل في المتعة العابرة؟ ومَن يملك الجرأة لقول الحقيقة؟
الكساد السياحي الذي تشهده المدينة اليوم ليس وليد أزمة اقتصادية فحسب، بل هو نتيجة منطقية لسلسلة من التراكمات التي بدأت بتغاضي الجهات المسؤولة عن مراقبة القطاع، وانتهت إلى سيادة منطق “كل شيء مباح” تحت شعار “الرواج بأي ثمن”. لكن، حين يغيب الأمن الحقيقي للسائح – الأمن النفسي والأخلاقي قبل الجسدي – فإن المدينة تفقد تدريجياً قدرتها على جذب الزوار الحقيقيين.
لقد حان الوقت لإعادة الاعتبار لمراكش، لا فقط كوجهة سياحية بل كمدينة ذات عمق حضاري وإنساني. أما تركها تتآكل بين مطرقة الفوضى وسندان الجشع، فليس سوى مسار نحو السقوط البطيء… في صمت.