نور الدين بازين
في خضم الحديث الرسمي المتكرر عن إصلاح منظومة الصحة وتوسيع قاعدة المستفيدين من الحماية الاجتماعية، تظهر أرقام صادمة تكشف عن اختلال بنيوي في طريقة تدبير تعويضات الأدوية، بشكل يطرح تساؤلات جادة حول مستقبل الصيدليات في المغرب، ودورها كحلقة أساسية في الولوج إلى العلاج.
فالمعطيات المتاحة تشير إلى أن الأدوية التي يقل سعرها عن 500 درهم تمثل حوالي 98٪ من مبيعات الصيدليات عبر التراب الوطني. وهي الأدوية التي يقبل عليها المواطنون بشكل يومي، لعلاج أمراض مزمنة وأخرى موسمية، أو حتى لحالات طبية بسيطة ومتكررة، وتُعد الرافعة الاقتصادية للصيدليات. ومع ذلك، فإن هذه الفئة الواسعة من الأدوية لا تستفيد إلا من نسبة تعويض لا تتعدى 15٪ من قبل صناديق التأمين الصحي، وهو ما يعتبره مهنيون في القطاع ضرباً لمبدأ الإنصاف الصحي.
في المقابل، فإن الأدوية التي يتجاوز سعرها 500 درهم — والتي تُصرف في الغالب بالمصحات الخاصة والمستشفيات الكبرى — تمتص أكثر من 85٪ من مجموع تعويضات صناديق التأمين، رغم أنها لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جداً من حيث الكمية. ويُطرح هنا السؤال المحوري: هل أصبحت الصيدليات — التي تؤمّن القرب والولوج السلس للعلاج — خارج حسابات الإصلاح الصحي، لصالح لوبيات المصحات والقطاع الاستشفائي الخاص؟
هذه الأرقام لا تقف عند حد التوزيع غير العادل للتعويضات بين الأدوية الرخيصة والمكلفة، بل تتعمق أكثر حين نعلم أن تعويض الأدوية إجمالاً لا يتجاوز 33٪ من حجم التعويضات الاستشفائية برمتها. بمعنى أوضح، فإن نسبة التعويض عن الأدوية التي يقتنيها المواطن من الصيدليات لا تتعدى 4.95٪ فقط من مجموع ما يصرفه نظام التأمين الصحي على المرضى، ما يشكل صدمة حقيقية للرأي العام وللمهنيين على حد سواء.
وإذا كانت الصيدليات تُؤطرها قوانين صارمة وتخضع لمراقبة دورية وتؤدي ضرائبها كاملة، فإن وضعها الحالي بات مقلقاً للغاية في ظل هذا التهميش، حيث تشتكي العديد من الصيدليات الصغيرة والمتوسطة من التراجع الحاد في المداخيل، وارتفاع تكاليف التسيير، وتنامي ظاهرة بيع الأدوية بطرق موازية وغير قانونية.
رأي خبير: «هكذا نخسر الصيدليات ونقضي على رئة المنظومة الصحية»
وفي تصريح خص به الجريدة، اعتبر الدكتور حسن العلوي، خبير في السياسات الدوائية وعضو سابق في المجلس الوطني لهيئة الصيادلة، أن “الأرقام الحالية تشكل كارثة صامتة، لأننا أمام نموذج تعويض منحاز للدواء المُكلف والنخبوي، ويضرب في العمق فلسفة الحماية الاجتماعية التي تنبني على العدالة في الولوج للعلاج“.
وأضاف العلوي: “حين تكون 98٪ من الأدوية المقتناة من الصيدليات لا يُعوَّض منها سوى 15٪، فنحن لا نحمي المواطنين، بل نُثقل كاهلهم ونحرمهم من حقهم في الدواء. الأسوأ من ذلك أن نظام التأمين يتجه لتكريس هذه الهوة، عبر دعم أدوية باهظة تُصرف غالباً في إطار استشفائي خاص ومكلف، يستفيد منه قلة من الناس”.
ويحذر الخبير من أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى نزيف في قطاع الصيدليات، مضيفاً: “لن يصمد كثير من الزملاء في وجه هذا الحصار غير المعلن، خصوصاً في القرى والأحياء الشعبية، وحين تُغلق الصيدليات أبوابها، سنفقد واحدة من آخر المؤسسات الصحية التي تشتغل بدون موعد، وعلى مدار الساعة”.
نحو سياسة دوائية وطنية منصفة
يرى عدد من المهنيين والباحثين أن الحل يمر عبر مراجعة السياسة الدوائية برمتها، وجعل الصيدليات شريكاً أساسياً في تنزيل ورش التغطية الصحية، لا مجرد وسيط مهمَّش.
ويطالب هؤلاء بتفعيل توصيات سابقة تنادي بـ:
- توسيع لائحة الأدوية القابلة للتعويض.
- رفع نسبة التعويض للأدوية التي يقل سعرها عن 500 درهم.
- تبسيط مساطر صرف التعويضات المباشرة لفائدة المواطنين.
- دعم الصيدليات في المناطق الهامشية والقرى باعتبارها منشآت صحية حيوية.
إن استمرار تجاهل الصيدليات في السياسات العمومية الصحية، سيؤدي لا محالة إلى انهيارها التدريجي، ويفتح الباب أمام فوضى دوائية، قد تتخذ أشكالاً عشوائية وخطيرة على السلامة الصحية للمواطنين.
للإشارة، فإن ضمان ولوج منصف إلى الدواء لا يمر فقط عبر ضخ الأموال في المصحات والمستشفيات، بل يبدأ من دعم الصيدليات، وتعزيز ثقة المواطن في خدماتها، وجعلها جزءاً من رؤية وطنية صحية عادلة وشاملة.