هيئة التحرير
تستأثر المحاكمة المرتقبة بين محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، ويونس بنسليمان، البرلماني عن حزب التجمع الوطني للأحرار، باهتمام واسع، ليس فقط على مستوى مراكش بل على الصعيد الوطني، بالنظر إلى الخلفيات الحقوقية والسياسية التي تؤطر هذا النزاع. فالقضية التي ستُعرض أمام المحكمة الابتدائية بمراكش يوم الجمعة 18 يوليوز على الساعة 9:30 صباحًا، تتقاطع فيها أسئلة جوهرية حول حدود حرية التعبير، وحماية المبلغين عن الفساد، واحترام قرينة البراءة.
خلفية المواجهة القضائية
تعود وقائع الملف إلى تصريحات أدلى بها محمد الغلوسي خلال ندوة صحفية، اتهم فيها بالاسم البرلماني يونس بنسليمان، بالتورط في تفويت غير قانوني لعقارين تابعين لأملاك الدولة بمراكش، ضمن ما وصفه بـ”شبكة من التواطؤ الإداري والسياسي”. هذه التصريحات، التي أدلى بها الغلوسي أمام عدد من المنابر الإعلامية، اعتبرها بنسليمان تشهيرًا علنيًا وإساءة مباشرة لشخصه وموقعه البرلماني، مما دفعه إلى تقديم شكاية مباشرة أمام القضاء، متهماً الغلوسي بخرق سرية البحث، ومبدأ قرينة البراءة، ونشر وقائع كاذبة دون أدلة ملموسة.
الغلوسي: القضية أكبر من نزاع شخصي
من جهته، يرى محمد الغلوسي أن هذه المحاكمة تتجاوز بعدها الشخصي، وهي محاولة مكشوفة لتكميم الأفواه وترهيب المبلغين عن الفساد. وكتب في تغريدة نشرها عبر حسابه الشخصي أن “محاكمتنا ستكون تاريخية”، وأنها “فرصة لفضح لوبيات الفساد التي تستهدف الجمعية المغربية لحماية المال العام، وتستهدف في العمق المجتمع ومستقبله في التنمية والكرامة والعدالة”.
وأكد الغلوسي أن عدداً من المحامين والمحاميات، من هيئات مختلفة، عبروا عن استعدادهم لمؤازرته أمام المحكمة، في تعبير واضح عن أن القضية تهم الرأي العام والحق الجمعي في مساءلة المسؤولين العموميين، وليس فقط نزاعًا مهنيًا.
حزب فيدرالية اليسار يدخل على الخط
وفي سياق التضامن مع الغلوسي، كان حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، الذي ينتمي إليه الغلوسي، قد أصدر بيانًا رسميًا عبّر فيه عن دعمه الكامل له، معتبرًا أن ما يتعرض له يدخل في إطار “حملة تضييق ممنهجة ضد الأصوات المناهضة للفساد، وضد كل من يسائل السلطة عن تدبير المال العام”.
وشدد بيان الحزب على أن محاربة الفساد ليست جريمة، بل واجب وطني وأخلاقي، داعيًا إلى حماية النشطاء الحقوقيين، وعدم استغلال القضاء لتصفية الحسابات السياسية أو خنق الحريات. واعتبر الحزب أن استدعاء الغلوسي للمثول أمام المحكمة هو مؤشر خطير يضرب في العمق مبادئ الشفافية والمحاسبة، ويبعث برسائل سلبية للمجتمع.
بنسليمان: الدفاع عن الكرامة المهنية
في المقابل، أوضح يونس بنسليمان أن لجوءه إلى القضاء جاء بعدما استنفد كل محاولات الحل الودي داخل هيئة المحامين، وأنه لم يكن يرغب في التصعيد، لكن الغلوسي أصر على الاستمرار في توجيه الاتهامات دون تقديم أدلة، بل وخصه بالذكر دون غيره من المتابعين المفترضين، في انتهاك صارخ لما اعتبره “ميثاق الزمالة”.
وقال بنسليمان في تدوينة له إن النقيب حاول إقناع الغلوسي بتقديم الاعتذار العلني، أو الإدلاء بما يثبت اتهاماته، مقابل استقالته من البرلمان والمحاماة، غير أن الغلوسي، حسب قوله، “اكتفى باعتذار محتشم تفادى فيه المساس بمصداقيته”. ليبقى الخيار الوحيد هو اللجوء للقضاء، مع تأكيد بنسليمان أنه لا يسعى إلى خلق تفرقة داخل الجسم المهني، بل فقط إلى إنصافه مما اعتبره حملة تشهير منظمة.
بين القانون والسياسة: محكمة الرأي العام تتابع
ليست هذه القضية مجرد دعوى بين محاميين أو مسؤولين سياسيين، بل هي محك حقيقي لمفاهيم حرية التعبير، وواجب التبليغ عن الفساد، في توازن دقيق مع احترام حقوق الأفراد والمؤسسات. بين من يعتبر الغلوسي صوتاً قوياً في مناهضة الفساد، ومن يرى أنه قد تجاوز حدوده الحقوقية والقانونية، تبقى الكلمة الأخيرة بيد القضاء.
وفي الوقت ذاته، يبقى الرهان المجتمعي هو حماية الحق في النقد المشروع، دون الانزلاق نحو التشهير أو تصفية الحسابات، في بيئة ديمقراطية تحترم سيادة القانون، وتضع المصلحة العامة فوق الاعتبارات السياسية أو الشخصية.
ما بين الغلوسي المدافع الشرس عن المال العام، وبنسليمان المدافع عن كرامته وحقه القانوني، ترتسم صورة مواجهة استثنائية تحمل في طياتها رسائل بليغة حول المسار الذي يسلكه المغرب في معركة الشفافية، وحدود ممارسة الحريات في مجتمع تتداخل فيه السياسة بالقانون، والنضال الحقوقي بالاعتبارات الشخصية.
إنها محاكمة قد تُسجل في الذاكرة كعلامة فارقة بين مرحلتين: مرحلة تُخضع النقد للمحاسبة، ومرحلة تكرّس النقد كحق، بشرط أن يلتزم بالمسؤولية القانونية.