السياسة والأخلاق في فكر ابن رشد: حين يُصبح العقل أساس الحكم

السياسة والأخلاق في فكر ابن رشد: حين يُصبح العقل أساس الحكم

- ‎فيرأي
257
التعليقات على السياسة والأخلاق في فكر ابن رشد: حين يُصبح العقل أساس الحكم مغلقة

بقلم: ذ. محمد بوفتاس*

في زمن تُفصل فيه السياسة عن الأخلاق بحجة الواقعية، وتُختزل فيه المصلحة في منطق القوة والغلبة، تبدو استعادة فكر ابن رشد في هذا المجال أكثر من ضرورة فلسفية؛ إنها ضرورة أخلاقية وإنسانية لإنقاذ السياسة من السقوط في الفساد، وإنقاذ الأخلاق من التحول إلى شعارات معطلة. لم يكن ابن رشد رجل دولة، لكنه كان فيلسوفًا اشتغل على أسس الحكم العادل، وعلى شروط بناء مدينة لا يقوم سلطانها على الغلبة، بل على الحكمة والعدل والمعرفة. إن فكره السياسي لا يأتي من خارج الأخلاق، بل من صميمها، لأنه كان يؤمن أن لا سياسة ممكنة دون تربية الفضيلة في الحاكم والمحكوم معًا.
ابن رشد قرأ السياسة قراءة فلسفية عقلانية، مستندًا إلى أرسطو من جهة، ومُحاورًا للواقع الأندلسي المأزوم من جهة أخرى. لم يقبل أن تكون السلطة سلعة يتوارثها الأقوياء، أو وسيلة للإخضاع، بل رأى فيها مسؤولية ثقيلة لا يستحقها إلا من اتسعت بصيرته وعقله، ومن جعل من خدمة الناس وتدبير الخير العام غايته الأولى. ولذلك، ارتبط عنده مفهوم المدينة الفاضلة بالحاكم الفيلسوف، لا الحاكم التاجر أو المحارب. فالفيلسوف لا يحكم بالسيف، بل بالحكمة، ولا يتخذ الدين سلاحًا للهيمنة، بل مرآةً للعدل.
في فكره تلازم وثيق بين الأخلاق والسياسة؛ إذ لا يمكن أن تُؤسس سياسة رشيدة على النفوذ فقط، بل على تربية النفس، وعلى تحكيم العقل، وعلى تهذيب الغرائز الفردية والجماعية. ولهذا، دعا إلى تربية المواطنين على الفضيلة، لا على الخوف، وعلى النقد لا على الطاعة العمياء. فالمجتمع الذي يُنتج الوعي ينتج بالضرورة مواطنًا فاعلًا، يشارك في القرار ويحاسب السلطة، ولا يتحول إلى تابعٍ خائف. وهنا تتقاطع رؤيته مع كثير من الأسئلة التي لا تزال راهنة في واقعنا: ما حدود القوة المشروعة؟ وما معنى أن تكون السياسة خادمة للخير العام لا أداة للسيطرة؟
ابن رشد كان أيضًا ناقدًا للاستبداد المقنّع بالدين. فبينما استُخدم الدين كثيرًا لتبرير السكوت والطاعة، كان هو يُنبه إلى أن الشريعة نفسها، حين تُفهم بالعقل، تُفضي إلى العدل، وأن من جوهر النص الديني الدعوة إلى النظر والتأمل، لا إلى التقليد الأعمى. ولذلك، فإن تهميش الفلسفة أو إقصاء الفكر النقدي لا يُنتج إلا نظامًا هشًا، تسكنه الخرافة، ويحكمه الخوف، ويُجهض كل إمكان للتطور.
وفي هذا السياق، فإن السياسة التي لا تتغذى بالأخلاق، سرعان ما تتحول إلى جهاز قمع، وإن الأخلاق التي تُفرّغ من بعدها العملي، تظل معلقة لا تُترجم في الواقع. لقد كان ابن رشد واعيًا بهذه الإشكالية، فكان مشروعه الفلسفي والسياسي معًا دعوة لبناء سلطة تستند إلى العقل، ومجتمع يؤمن بأن العدل ليس شعارًا سلطويًا، بل ثمرة لتربية أخلاقية عميقة.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى هذه الرؤية المتزنة، التي لا تُقدّس الحاكم ولا تُشيطن الشعب، بل تسعى إلى خلق علاقة متوازنة بين المواطن والدولة، على أساس من المعرفة والفضيلة. فالمشكل الحقيقي في مجتمعاتنا لم يكن يومًا غياب القوانين، بل غياب الوعي الأخلاقي الذي يجعل من هذه القوانين مؤسسات حية. من هنا، تبدو الفلسفة، عند ابن رشد، ليست ترفًا ثقافيًا، بل حجر الأساس في بناء سياسة تحترم الإنسان، وتُحرره من الخوف، وتمنحه المعنى في مشاركته للشأن العام.
فلسفة ابن رشد ليست وصفة جاهزة، لكنها تقدم إطارًا يمكن أن نعيد من خلاله التفكير في شروط السياسة العادلة: كيف نحكم؟ ولماذا نحكم؟ ولأجل من؟ وهي أسئلة لا تخص الماضي فقط، بل تخص حاضرًا تتكاثر فيه السلطات وتقل فيه العدالة، تتضخم فيه المؤسسات وتتضاءل فيه القيم. وفي مواجهة هذا الاختلال، يبقى فكر ابن رشد نداءً لعقل لم يُفقد بعد، وإن كاد يُنسى.

*باحث في الفكر والدين والمجتمع

يمكنك ايضا ان تقرأ

لقجع: ” مؤسسة المغرب 2030 ليست مجرد هيكل إداري بل أداة استراتيجية لترجمة التوجيهات الملكية”

سمية العابر-الرباط قال فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف