نورالدين بازين
في مشهد يعيد إلى الأذهان محاكم التفتيش، حكمت محكمة جزائرية بالسجن خمس سنوات على الكاتب والمفكر بوعلام صنصال، بتهمة فضفاضة ومائعة: “المساس بوحدة أراضي البلاد”. لكنّ الحقيقة أن التهمة الحقيقية التي يُعاقب من أجلها صنصال، ليست إلا جريمة التفكير الحر في نظام لا يرى في حرية التعبير سوى تهديد وجودي لسلطته القائمة على العسكر والتزييف التاريخي.
بوعلام صنصال، هذا المثقف الذي لا يهادن، وُلد من أم جزائرية وأب مغربي عام 1949، وعاش مراحل عمره بين ثقافتين وحدودين صنعهما الاستعمار، لكنه ظل متمسكًا بالحقيقة، يكتبها ويقولها بجرأة. حين صرّح في مقابلة صحافية بأن فرنسا الاستعمارية أهدت الجزائر مساحات شاسعة من الأراضي على حساب المغرب، لم يكن سوى مؤرخٍ صادق، يلامس ملفًا ظلّ من المحرّمات داخل الجزائر منذ عقود، ويخترق جدارًا من الأكاذيب التي بناها النظام العسكري حول “قداسة” الحدود.
ما قام به صنصال ليس جريمة، بل هو إعادة فتح لملف مغلق عن عمد، ملف الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار الفرنسي ثم سلّمها على طبق من ذهب للعسكر بعد الاستقلال الشكلي. لم يحتمل النظام العسكري أن تُقال هذه الحقيقة، لأن شرعيته الهشة، ومنذ 1962، تقوم على أسطورة تحرير وطني مختزلة، تُقصي التاريخ الحقيقي وتُقدّس الخرائط التي رسمها ديغول.
فبدلاً من محاورة صنصال، أو حتى تجاهل تصريحاته، قام النظام العسكري باعتقاله وتعريضه لظروف قاسية أدّت إلى تدهور صحته، ما اضطره للبقاء في المستشفى. هكذا تتصرف الأنظمة الضعيفة: تُرهب المفكرين وتستعرض عضلاتها القضائية ضد صوت منفرد، بينما تُفلت مافيات الفساد ونهّابي ثروات الشعب من المحاسبة.
النظام العسكري ومأسسة القمع
هذا الحكم الجائر لا يُقرأ بمعزل عن المسار المتدهور لحقوق الإنسان في الجزائر خلال العقود الأخيرة. منذ أن اغتصب الجيش الحكم بعد الاستقلال، لم يعرف الجزائريون سوى الدساتير المعدّلة على المقاس، والانتخابات الموجهة، وإعلامًا رسميًا يلوك خطابات مكرورة عن “العدو الخارجي”، بينما تُخنق كل محاولة للتنفس داخليًا.
النظام العسكري في الجزائر لا يعادي فقط المثقفين، بل يعادي الفكر نفسه، لأنه يعلم أن الحقيقة إذا انتشرت، ستُسقط الهيبة المصطنعة التي بناها بمدافع الدبابات ودعاية أجهزة المخابرات.
واللافت أن ردود الفعل الدولية جاءت سريعة، حيث عبّر كتّاب عالميون مثل وولي سوينكا وسلمان رشدي عن تضامنهم مع صنصال، إلى جانب مسؤولين فرنسيين. هذا التضامن يفضح عزلة النظام الجزائري، ويؤكد أن العالم لم يعد يتسامح مع سلطة ترهب كاتبًا مريضًا، فقط لأنه قال إن “بشار وتندوف كانت يومًا جزءًا من المغرب”.
المعركة لم تعد ترابية، بل فكرية
ما يخيف النظام العسكري ليس فقط ما قاله صنصال، بل من سيأتي بعده. المثقف اليوم لا يُحارَب بالرصاص، بل بالسجون والوصم والتهم الجاهزة، لكن صوته يظل أقوى من القضبان. المعركة الحقيقية في الجزائر اليوم لم تعد فقط حول الخرائط، بل حول من يملك شرعية السرد. وسردية النظام تنهار، واحدة تلو الأخرى، في وجه أجيال جديدة تُطالب بالشفافية، وبقراءة حقيقية لتاريخ ضُيّع، وهوية مُلتبسة بفعل القمع والتزييف.
بوعلام صنصال ليس وحده، وكل مثقف يتجرأ على قول الحقيقة داخل الجزائر أو خارجها، يعلم أن الثمن قد يكون حريته، أو حتى حياته، لكن كذلك يعلم أن المعركة أسمى من أن تُختصر في سجن أو محاكمة.
إن إدانة النظام العسكري الجزائري في هذه القضية، ليست فقط دفاعًا عن كاتب، بل دفاع عن حق كل إنسان في أن يقول ما يؤمن به، وأن يعيد فتح دفاتر التاريخ دون أن يُتهم بالخيانة. لأن من يخشى الحقيقة، هو نفسه من يخشى الشعب، ومن لا يثق بشعبه، لا يستحق أن يحكمه.