العرائش: حين يختنق الرقمي بالورق..صرخة “الباتول” تكشف عتمة الفساد !

العرائش: حين يختنق الرقمي بالورق..صرخة “الباتول” تكشف عتمة الفساد !

- ‎فيرأي
2373
0

بقلم : عبدالقادر العفسي


في قلب العرائش، على بعد خطوات من وعود الحداثة الرقمية التي بشرت بها منصة 
الإلكترونية المخصصة بالإسكان والتعمير كنهاية لعهد وبداية لآخر، تبرز وثيقة ورقية، رخصة بناء تجزئة مؤرخة في يونيو 2022، كشاهد صامت على صدع وجودي في جسد الدولة والمجتمع، ليست مجرد مخالفة إدارية عابرة، بل هي تجلٍّ مادي لتلك المسافة الشاسعة بين الخطاب الرسمي المعلن، الذي يتبنى لغة الرقمنة والشفافية والحكامة الجيدة المستلهمة من أعلى مستويات السلطة، وبين الواقع المعاش في دهاليز الإدارة المحلية والإقليمية، حيث يبدو أن السلطة الممارسة الفعلية منطقها الخاص الذي قد يتجاوز، بل ويناقض، منطق القانون المركزي.

بهذه العبارات و في خطوة جريئة تتخطى حدود الصمت كشفت الناشطة السياسية و المدنية بالعرائش السيدة “الباتول السواط” النقاب في فيديو مدعم بالوثائق ، يفضح الفساد المستشري في التدبير و أروقة السلطة رغم إدراكها العميق لحالة التفكك والانهيار للمؤسسات في هذه الجغرافية ،اختارت أن ترفع صوت الحقيقية بأسلوبها القوي و المؤثر ، حيث تقدم ” الباتول” شهادة حية على واقع مرير متحدية التعتيم ، إن الوثيقة التي قدمتها ليس ورقة عادية بل صرخة مدوية تهز الضمائر خاصة و هي تقول  التالي : إذا افترضنا أن التجزئة “اللكوس” في شطرها الأول و الثاني مساحتها 7 هكتار و أن نوعية البناء سفلي و طبقين فإن الواجب أدائه على أربع سنوات الأخيرة و بدون غرامات و الجزاءات التأخير عن الضريبة الحضرية على الأراضي غير المبنية هو : مليون و 400 ألف درهم ، و يضاف إلى ذلك الإقرار التجزيئي أو إنشاء التجزئة و الذي يقدر كلفته التجزيئي التقديري المحدد وفق القرار الجبائي و التي لا يمكن أن تقل عن أزيد من : مليون درهم ،هل تم تحصيلها ؟ وهل تم الالتزام بالقانون المغربي رقم 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية، ثم أردفت : قبل أن اختم أخبركم عن فهلوة الفساد أنه بعدما تم تداول هذه الكارثة ،عمد جهابذة الفساد إلى وضع مؤخرا طلب في المنصة الإلكترونية باسم شركة جديدة في إطار الضحك على الذقون ، و سؤالي و هو للدولة و العالم : لماذا لم تمر هذه التجزئة في المنصة ؟ . انتهى

هنا ،حيث تكمن التناقضات الجوهرية في إصدار رخصة بناء التجزئة الورقية المرفقة في كون تاريخ تحريرها، “01 يونيو 2022” بالعرائش، يقع بعد مرور أكثر من عام ونصف على الموعد النهائي المفترض لتعميم المنصة الرقمية على الصعيد الوطني بنهاية سنة 2020، كما تؤكد ذلك النشرة الرسمية للربع الثالث من سنة 2020 الصادرة عن المديرية العامة للجماعات الترابية.

هذا يعني أن جميع طلبات تراخيص التعمير، بما في ذلك تجزئة الأراضي، كان يجب أن تتم معالجتها حصراً عبر المنصة الرقمية اعتباراً من بداية 2021 على أبعد تقدير، إن إصدار رخصة ورقية في يونيو 2022، موقعة من طرف رئيس المجلس الجماعي بالنيابة ومؤشر عليها مع الصمت من المؤسسة العاملية ، يمثل تجاوزاً صريحاً للإجراءات الرقمية الملزمة التي فرضتها وزارة الداخلية بهدف تحديث الإدارة، تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد المحتمل في قطاع التعمير، ومما يزيد الأمر تعقيداً أن الوثائق تشير إلى تواريخ لقرارات لجان إقليمية (شتنبر 2021) وقرار جبائي (دجنبر 2021) تقع هي الأخرى بعد الموعد النهائي لتعميم المنصة، بل إن تاريخ تسجيل الطلب الأصلي بمكتب الضبط (27 يونيو 2022) يأتي لاحقاً لتاريخ إصدار الرخصة نفسها (1 يونيو 2022)، مما يثير تساؤلات إضافية حول تسلسل الإجراءات وصحتها، إن إصدار الرخصة بالشكل الورقي وفي هذا التاريخ المتأخر يشكل مخالفة واضحة للمساطر القانونية والتنظيمية المعمول بها، ويتناقض مع التوجهات الرسمية نحو رقمنة الخدمات الإدارية المتعلقة بالتعمير،إن هذا الإجراء لا يمثل مجرد مخالفة إجرائية بسيطة، بل يكتسي أبعاداً قانونية وسياسية وإدارية عميقة تستدعي المساءلة على مختلف المستويات، فهو يشكل خرقاً مباشراً للدوريات والمراسيم الوزارية التي فرضت اللجوء الحصري للمنصة الرقمية ، ضارباً في الصميم مبدأ الشرعية وسيادة القانون الإداري، كما يقوض الأهداف الإستراتيجية الوطنية للرقمنة والحكامة، حيث تم إطلاق المنصة لتبسيط المساطر وتعزيز الشفافية وتضييق الخناق على الممارسات المشبوهة، والعودة للمساطر الورقية ينسف هذه الأهداف.

والأخطر من ذلك، أن اللجوء إلى المسطرة الورقية بدل المنصة الرقمية الشفافة والقابلة للتتبع يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول دوافع هذا الإجراء، ويثير الشكوك حول وجود محاباة أو استغلال للنفوذ، خاصة وأن غياب الشفافية الرقمية يغذي هذه الشكوك، وتقع المسؤولية المباشرة على عاتق السلطة الإدارية المانحة للترخيص الرئيس و نائبه الموقع ورئيس قسم التعمير بالجماعة، لكن صمت عمالة إقليم العرائش و الصمت العاملي يطرح تساؤلات جدية حول دور مصالح العمالة في الرقابة الإدارية والسهر على تطبيق القانون، بما في ذلك إلزامية المنصة الرقمية، مما قد يرقى إلى مستوى المسؤولية الإدارية والسياسية إذا ثبت التقصير أو التواطؤ؟ إن هذه القضية ليست مجرد خطأ إداري، بل مؤشر على خلل محتمل في منظومة الحكامة المحلية والإقليمية، وتحدٍ للجهود الوطنية الرامية إلى تحديث الإدارة ومكافحة الفساد، وتتطلب تحقيقاً دقيقاً لتحديد كافة المسؤوليات على جميع المستويات، بما فيها المسؤولية الإقليمية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عدم تكرار مثل هذه التجاوزات.

إن واقعة إصدار هذه الرخصة الورقية في العرائش سنة 2022، في تحدٍ صارخ للإلزامية القانونية والتنظيمية للمنصة الرقمية الموحدة، لا تقف عند حدود الخرق الإداري، بل تتجاوز ذلك لتشكل تناقضاً مباشراً وجلياً مع التوجيهات الملكية السامية التي ما فتئت تؤكد على ضرورة تحديث الإدارة، ترسيخ الحكامة الجيدة، ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاربة كافة أشكال الفساد واستغلال النفوذ، لقد أكد جلالة الملك “محمد السادس” في مناسبات عديدة، على الأهمية القصوى لإصلاح الإدارة وتبسيط المساطر واعتماد الرقمنة كرافعة أساسية للتنمية. ففي الرسالة السامية الموجهة إلى المشاركين في الندوة الوطنية حول “دعم الأخلاقيات بالمرفق العام” شدد جلالته على أن “هدف الإجراءات العمومیة التسهیل والتیسیر ولیس التعقید والتعسیر وھي منھاج لترسیخ روح الاستقامة والوضوح والشفافية والتعجيل في إيصال النفع للناس وتحقیق العقلنة”، مؤكداً على ضرورة “تبسيط الإجراءات وتحيين النصوص الإدارية وتحديث وسائل التدبیر والعمل على التوفیق المستمر بین المقتضيات الإدارية وروح العصر”.

 

 إن اللجوء إلى مسطرة ورقية متجاوزة، بدل المنصة الرقمية التي تضمن السرعة والشفافية والتتبع، يضرب عرض الحائط بهذه التوجيهات السامية ويهدر الجهود الوطنية المبذولة لتحديث المرفق العام، كما أن هذه الممارسة تتنافى مع المفهوم الجديد للسلطة الذي أرساه جلالة الملك، والذي يربط ممارسة السلطة بخدمة المواطن وصيانة حقوقه ومصالحه في إطار من الشفافية والمساءلة، فالعودة إلى الأساليب التقليدية غير الشفافة في تدبير ملفات حساسة كالتعمير، تثير الشكوك حول مدى الالتزام بمبادئ النزاهة وتكافؤ الفرص، وتفتح الباب أمام احتمالات استغلال المؤسسات لتحقيق منافع خاصة أو للثراء غير المشروع، وهو ما حذر منه جلالته مراراً وتكراراً.

 

 إن التغاضي عن تطبيق الإجراءات الرقمية الملزمة لا يمكن تفسيره إلا كاستهتار بالتوجهات الملكية الواضحة وبالمصلحة العامة، فالحكامة الجيدة كما أكد جلالة الملك، هي “عماد نجاح أي إصلاح”، ولا يمكن تحقيقها في ظل استمرار مثل هذه التجاوزات التي تقوض أسس دولة الحق والقانون وتضعف ثقة المواطنين في مؤسساتهم، إن قضية الرخصة الورقية بالعرائش تمثل نموذجاً صارخاً للمقاومة التي تواجهها الإصلاحات الهيكلية، وهي بذلك لا تمس فقط بمصداقية الإدارة المحلية والإقليمية، بل تتناقض بشكل مباشر مع الرؤية الملكية لبناء مغرب حديث، شفاف، ومسؤول، مما يستدعي وقفة حازمة وتطبيقاً صارماً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على كافة المستويات، وفتح تحقيق معمق وشامل لتحديد جميع المتورطين وترتيب الجزاءات القانونية اللازمة.

و من جهة هنا، لا يعود السؤال عن قانونية الرخصة بحد ذاتها، بل عن طبيعة السلطة التي أنتجتها في هذا الزمن الرقمي المفترض، هل هي سلطة القانون الموحد التي تتحدث باسم الدولة المركزية عبر منصاتها الرقمية، أم هي سلطة أخرى، أكثر محلية وتجذراً، تستمد شرعيتها من قدرتها على تسيير الأمور “بالطريقة المعتادة”، حتى لو كانت تلك الطريقة تتعارض مع التوجهات الكبرى؟ إنها ليست مجرد ورقة، بل مرآة تعكس لنا صورة الدولة ليس ككيان متجانس، بل كفضاء تتصارع فيه إرادات ومصالح ومنطق مختلف، صراع بين رغبة التحديث ومقاومة التغيير، بين شفافية الكود الرقمي وغموض التوقيع اليدوي.

هذه الواقعة تدفعنا للتساؤل، على طريقة “فوكو” عن ميكروفيزياء السلطة وكيفية اشتغالها بعيداً عن الأضواء، فالمنصة الرقمية بكل ما تحمله من وعود بالرقابة والشفافية وتوحيد المساطر، تبدو كـ”بانوبتيكون” حديث يهدف إلى جعل كل شيء مرئياً وقابلاً للتتبع، وبالتالي خاضعاً للمساءلة، لكن القدرة على إصدار رخصة ورقية في هذا السياق، بتوقيعات رسمية وختوم إدارية، توحي بأن آليات السلطة التقليدية، القائمة على العلاقات الشخصية والتقديرات الخاصة وربما المصالح الضيقة، لا تزال قادرة على العمل في الظل، على التحايل على عين الرقيب الرقمي، أو ربما على إقناعه بغض الطرف ! .

 

إنها ليست مجرد عودة للورق، بل هي ربما تأكيد على أن السلطة الحقيقية لا تكمن فقط في النص القانوني أو في الواجهة الرقمية، بل في القدرة على تفسير النص وتطبيقه، أو عدم تطبيقه، وفقاً لحسابات أخرى، هذا يضعنا أمام مفارقة مؤلمة: كلما تقدمت الدولة في بناء واجهات الحداثة والشفافية، كلما أصبحت الممارسات التي تتجاوز هذه الواجهات أكثر دلالة وخطورة، لأنها تكشف عن هشاشة المشروع الحداثي نفسه وعن استمرار منطق “الدولة العميقة” بممارساتها الموازية،وماذا عن المواطن في خضم هذا الصراع بين الخطاب والواقع، بين الرقمي والورقي؟ إن الفضاء العمومي، الذي يفترض أن يكون مجالاً للنقاش العقلاني والشفافية كما نظر له “هابرماس” يصبح هنا فضاءً للتشويش والريبة، عندما يرى المواطن أن الإدارة قادرة على تجاوز مساطرها المعلنة، وأن هناك من يستطيع الحصول على تراخيص بطرق تبدو استثنائية وغير متاحة للجميع، تتآكل ثقته في المؤسسات وفي مبدأ المساواة أمام القانون، لا يعود الأمر مجرد شك في نزاهة موظف أو مسؤول، بل شك في بنية الدولة نفسها وفي جدية التزاماتها.

بالتالي تصبح الرقمنة مجرد ديكور، والحكامة مجرد شعار، والمواطنة مجرد وهم في مواجهة واقع يبدو فيه أن “القواعد” ليست للجميع، وأن هناك دائماً “استثناءات” لمن يملك مفاتيح السلطة الفعلية، إن هذه الرخصة الورقية، في عمقها الفلسفي والسياسي، ليست مجرد وثيقة إدارية، بل هي سؤال وجودي موجه للدولة المغربية الحديثة: أي دولة نريد؟ دولة القانون والمؤسسات والشفافية الرقمية التي تتحدث عنها الخطابات الرسمية والتوجيهات الملكية، أم دولة الممارسات الموازية والاستثناءات والولاءات الضيقة التي تكشف عنها مثل هذه الوقائع الصادمة؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تكمن في فتح تحقيق إداري حول رخصة بعينها، بل في مواجهة شجاعة مع هذا الصدع العميق بين ما نقول إننا عليه، وما نحن عليه فعلاً في ممارساتنا اليومية، وهي مواجهة تتطلب ليس فقط تطبيق القانون، بل إعادة بناء الثقة المهدورة وتأكيد سيادة الدولة الواحدة الموحدة، دولة الحق والقانون للجميع، وليس دولة الورق لمن استطاع إليه سبيلاً ! .

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

“المدرب رفضنا”… لاعبون ساهمو في صعود الكوكب المراكشي يعلّقون على قرار الاستبعاد

رشيد سرحان طالت موجة تغييرات واسعة صفوف فريق