بقلم: محمد بوفتاس
حين يُفتح النقاش حول فكرة عذاب القبر في الوجدان الإسلامي، نجد أنفسنا أمام صورة راسخة وعميقة في المخيال الجمعي، تتحدث عن لحظة الموت كلحظة فاصلة يدخل فيها الإنسان طورًا جديدًا من العقاب أو النعيم، حيث يتعرض لسؤال منكر ونكير، ويتلقى الضرب والضغط في القبر، أو يجد نفسه في نعيم مقيم. هذا التصور لا يجد له أساسًا صريحًا في كتاب الله، لكن حضوره الطاغي في الثقافة الإسلامية يعود إلى تراكم تاريخي لمرويات ومعتقدات انتقلت إلى المسلمين من خلال تفاعلاتهم الحضارية والدينية مع شعوب وثقافات أخرى، خاصة في القرون الأولى لنشوء الدولة الإسلامية. ففكرة أن القبر ليس مكان راحة أو سكون، بل هو مقدمة تعذيب أو نعيم قبل يوم القيامة، لم تكن جزءًا من التصور القرآني النقي، بل تسربت إلى الإسلام من خارج النص القرآني، لتتحول إلى عقيدة ترهيبية لها حضور عاطفي ونفسي أكثر من كونه علميًّا راسخًا.
لقد كانت لحظة الانفتاح الأول للمسلمين على الشعوب المجاورة، لحظة حاسمة في تشكل كثير من المفاهيم الغيبية، ومنها عذاب القبر. فالإسلام، حين خرج من الجزيرة العربية، واجه حضارات عريقة، مثل الفارسية واليونانية والهندية واليهودية، وكلها كانت تملك تصورات معقدة عن الحياة بعد الموت. وفي الثقافة الزرادشتية، مثلاً، نجد تصورًا مفصلًا عن الأرواح التي تنتقل إلى عالم آخر بعد الموت، وتُحاكم من طرف كائنات غيبية، وتُجازى بالعذاب أو النعيم قبل يوم الحساب النهائي. كما أن الفرس كانوا يعتقدون بوجود “جسر صراط” يمر فوق جهنم، ويؤمنون بأن الروح تمرّ بمرحلة وسطى مليئة بالأهوال قبل أن تصل إلى مستقرها، وهذه الفكرة شديدة الشبه بما انتقل لاحقًا إلى التراث الإسلامي عن عذاب القبر والصراط وسؤال الملكين.
أما في الموروث اليهودي، فقد كان لعالم “شِيؤُول” حضور قوي، وهو مكان تحت الأرض تذهب إليه الأرواح بعد الموت، وتعيش فيه حالة من العقاب أو الانتظار القاسي، وقد تسرب كثير من تلك التصورات إلى الإسلام عن طريق الإسرائيليات، أي تلك الأخبار التي رواها الصحابة والتابعون ممن كانوا يهودًا قبل الإسلام، أو ممن تأثروا بتفسيرات يهودية، ونقلوها على أنها من الدين. وهكذا بدأت مرويات كثيرة تظهر في كتب التفسير والحديث عن أحوال الميت في قبره، وسؤال الملكين، وفتنة القبر، وضرب الميت، وأحاديث فيها تفاصيل مرعبة لم ترد في القرآن قط، لكنها أصبحت جزءًا من البنية العقدية لدى عموم المسلمين.
ومع صعود الدولة الأموية ثم العباسية، وظهور طبقة العلماء والفقهاء والوعاظ، بدأت الحاجة إلى ترسيخ نوع من “الردع الغيبي”، فتم توظيف مثل هذه المرويات لتخويف الناس من المعصية وترهيبهم من الموت، وكان القبر هو المرحلة الأنسب لزرع هذا الخوف. ففي الوقت الذي كان فيه القرآن يؤكد أن الحساب لا يكون إلا يوم القيامة، ظهرت نصوص تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، تصف القبر كمرحلة محاسبة أولى، وتعرض تفصيلات لا علاقة لها بروح النص القرآني، بل أحيانًا تناقضه صراحة. فالله يقول: “ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون”، ما يدل على أن الميت لا يمر بأي نوع من العذاب أو النعيم إلى أن يُبعث من جديد، في حين نجد في كتب الأحاديث روايات تحكي عن رؤية الميت يُعذّب على معاصٍ صغيرة، مثل عدم التنزه من البول أو النميمة، بل يتم شقه نصفين، أو يُضرب بمطارق من حديد، ويُضغط حتى تتداخل أضلاعه، وكلها صور توحي أن القبر صار جحيمًا مصغرًا.
وإذا أضفنا إلى هذا تأثير الثقافة الهلنستية، سنجد أن الفلاسفة اليونانيين بدورهم تحدثوا عن الأرواح التي تظل عالقة في عالم متوسط قبل أن تُعاد للحساب، ما يعني أن العالم القديم كله كان مشغولاً بتفسير ما بعد الموت، وكانت الفجوة بين الموت والبعث تُملأ برؤى وخيالات وأساطير تصبّ جميعها في خانة التأثير النفسي والسلطة الدينية. وما فعله بعض فقهاء المسلمين لاحقًا هو أنهم تلقّفوا تلك الصور وألبسوها لبوسًا إسلاميًا عبر انتقاء الأحاديث وتوظيفها في السياق العقائدي.
وإذا عدنا إلى العقل السني التقليدي، سنجد أن فكرة عذاب القبر أصبحت معيارًا للفرز العقدي بين من يوصف بأنه “من أهل السنة” ومن يعتبر “مبتدعًا” أو “ضالًا”. وهذا يكشف أن الفكرة تحولت من كونها تصورًا غيبيًا ظنيًا إلى أداة مذهبية يتم بها تصنيف الناس دينيًا، مع أنها لم ترد في القرآن الذي يفترض أن يكون هو المرجعية الأولى والأعلى في العقائد، لا سيما العقائد الغيبية الكبرى. لقد ساهم هذا التراكم في جعل المسلم البسيط يعيش في رعب دائم من القبر، لا من البعث أو يوم القيامة، وتحول الموت في المخيال الشعبي إلى لحظة رعب وليس انتقالًا إلى برزخ مؤجل.
وهكذا تبلورت فكرة عذاب القبر في الوجدان الإسلامي كتوليفة من عدة مصادر: الزرادشتية، اليهودية، التأويلات الحديثية، والسلطة الوعظية، وليس من القرآن الكريم الذي أصر في أكثر من موضع على أن “كل نفس ذائقة الموت”، وأن “كل يجازى يوم القيامة”، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن الإنسان سيتعرض بعد وفاته مباشرة لأي نوع من المحاسبة أو العقاب. بل إن الآيات التي تصف البعث والحساب كلها تبدأ بعد النفخ في الصور، لا قبله. وهذا معناه أن القبر ـ بحسب النص القرآني ـ ليس سوى مرحلة سكون وانتظار، لا أكثر.
والمثير أن كثيرًا من العلماء الذين درسوا هذه المرويات بانتباه وجدوا أن الأحاديث المتعلقة بعذاب القبر أحاديث آحاد، أي لم تبلغ درجة التواتر، وبعضها متناقض أو مروي من طرق ضعيفة، ما يجعلها غير صالحة لتأسيس عقيدة. لكن، ولأسباب نفسية وتربوية وتاريخية، استمر الاعتماد عليها وجرى تثبيتها في الوجدان الجمعي عبر الخطب والمواعظ وكتب العقيدة، لتتحول إلى واحدة من أكثر صور الغيب تجذرًا في الوعي الإسلامي، رغم أنها لا تستند إلى أصل قرآني.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في هذه المعتقدات من منظور نقدي قرآني، وللتحرر من الصور المرعبة التي لا تليق بعدالة الله ولا برحمته. فالعقيدة لا تُبنى على الخوف، بل على الوحي الصريح، والوجدان الصافي، والعقل السليم. وإذا كان من شيء يستحق أن نخافه، فليس هو عذاب القبر، بل أن نُبعث يوم القيامة ولم نعمل عملًا يُرضي الله، ولم نُقم الدين على أساس من التوحيد والعدل. فليكن القبر مكان راحة وسكون كما وصفه الله، ولنترك الحساب والجزاء لليوم الذي قال عنه: “اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب”.
بقلم: محمد بوفتاس
باحث مهتم بقضايا الفكر والدين والمجتمع