انكسار المرآة: إيران بين صدى الزئير وواقع الانهيار

انكسار المرآة: إيران بين صدى الزئير وواقع الانهيار

- ‎فيرأي
1754
0

بقلم : عبدالقادر العفسي / المغرب

في مسرح الوجود الجيوسياسي، حيث تتراقص الأمم على حبال القدر، وتتصارع الهويات في غبار التاريخ، تبرز إيران، لا ككيان سياسي فحسب، بل كظاهرة فلسفية تستدعي التأمل العميق، وربما السخرية المريرة، فمنذ أن أطلقت صرخاتها الثورية، وهي تتغنى بالصمود والمقاومة، وتتوعد الأعداء بـ”الوعد الصادق”، الذي ما لبث أن تحول إلى “صدى باهت” في فضاء الواقع العسكري.

 لقد كانت إيران، في مخيلة قادتها، أسداً زئاراً، يرتعد له فرائس المنطقة، لكن الواقع، هذا الساحر الماكر، كشف عن أسد من ورق، يزأر في الفراغ، بينما تنهش أطرافه خفافيش الليل ببراعة جراحية، تأملوا معي هذا المشهد العبثي الذي تجلى في “هجوم الأسد الصاعد” دولة تتدرب على حرب لم تحدث بعد، وتجري مناورات “اقتدار” لتتنبأ بهجوم لم يقع، ثم تفاجأ بأن الهجوم قد وقع بالفعل، وبشكل لم تتوقعه حتى في أحلامها الكابوسية، لقد كانت إيران، في غفلتها الاستراتيجية، كالملاكم الذي يتدرب على لكمات وهمية، بينما يتلقى ضربات حقيقية على رأسه، فيسقط صريعاً قبل أن يدرك أن المباراة قد بدأت.

إنها كوميديا سوداء، حيث يتحول التهديد إلى نكتة، والوعيد إلى سخرية، والقوة إلى ضعف مكشوف، فالصياح الأيديولوجي، الذي طالما شكل جوهر الخطاب الإيراني، والذي يهدف إلى ترسيخ الهوية وتعبئة الجماهير، قد اصطدم بجدار الواقع الصلب، فبينما كان قائد الحرس الثوري يزأر بالوعيد قبل ساعات من الهجوم، كان القدر يجهز له نهاية مفارقة، ليتحول هو نفسه إلى عبرة للتاريخ، اغتيل في بيته، وكأن القدر أراد أن يسخر من غروره، ويكشف عن الفارق الشاسع بين بلاغة الخطاب ووحشية الفعل ، أما مفهوم “الإرهاب”، الذي طالما وُصمت به إيران ( دعم المليشيات في العراق و نظام بشار البائد و حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن و دعمها للذراع العسكري الجزائري إرهابي البوليساريو و الساحل الإفريقي …)، فقد اكتسب أبعاداً جديدة في ضوء هذه المواجهة.

فإذا كانت إيران تُتهم بدعم جماعات تُصنف كإرهابية، فإن طبيعة الهجوم الإسرائيلي، الذي لم يقتصر على الأهداف العسكرية بل امتد ليشمل اغتيالات دقيقة لكبار القادة والعلماء، واستهداف منازلهم وأسرهم، يثير تساؤلات فلسفية حول حدود “إرهاب الدولة”، إن استهداف العلماء النوويين بفرق اغتيالات اخترقت الأراضي الإيرانية قبل أسابيع، واستهداف منازل القادة العسكريين، يشير إلى مستوى غير مسبوق من الاختراق الاستخباراتي، ويفضح هشاشة الأمن الإيراني، هذا الاختراق العميق، الذي جعل طهران تبدو كعش دبابير اخترقه النحل، لا بل الفراشات، يضع مفهوم “الدفاع الأمامي” و”محور المقاومة و” في سياق جديد، حيث يصبح الفاعل نفسه عرضة لضربات وجودية لا يمكن التنبؤ بها أو ردعها بتهديدات جوفاء، فالموساد الإسرائيلي، هذا الشبح الذي لا ينام، تجول في أراضيها كأنه في نزهة ربيعية، يغتال ويُدمر، وكأنها لعبة فيديو، حيث النقاط تُجمع بقتل الأبطال الخارقين ، والبرنامج النووي، هذا الحلم الذي طالما راود قادة إيران كشكل من أشكال “التأكيد الوجودي” في نظام دولي فوضوي، قد تحول إلى كابوس.

 فالمفاعلات التي كانت تعد باليورانيوم المخصب، تحولت إلى ركام، والعلماء الذين كانوا يعملون على صنع القنبلة، تحولوا إلى أشلاء، لقد كانت إيران، في سعيها لامتلاك القوة النووية، كمن يبني قصراً من الرمال على شاطئ عاصف، فينهار القصر مع أول موجة، ويتبخر الحلم مع أول ضربة، فالضربات لم تقتصر على مفاعل “نطنز”، بل امتدت لتشمل مفاعل “برشين” المسؤول عن تطوير الرؤوس الحربية، ومفاعل “خنداب” لإنتاج البلوتونيوم، ومختبرات “خروم أباد”، وحتى مفاعل “فوردو” المحصن داخل كهف جبلي، حيث تم تعطيل مداخله ومخارجه ومنافذ التهوية، هذا الاستهداف الشامل يهدف إلى تدمير أو تعطيل كل مكونات البرنامج النووي الإيراني، مما يضع إيران أمام تحدٍ وجودي حقيقي يتعلق بقدرتها على استئناف هذا البرنامج، ويجعل من سعيها نحو “توازن الرعب” مجرد سراب.

وفي خضم هذا العبث، تبرز أمريكا، هذا العملاق الذي يتظاهر بالحياد، بينما يوجه الضربات من خلف الستار، لقد كانت أمريكا، في هذا المشهد، كالمخرج الذي يدير مسرحية عبثية، يوزع الأدوار، ويحرك الدمى، ويشاهد الصراع من بعيد، بينما يضمن أن مصالحه محفوظة، وأن مضيق “هرمز” مفتوح، إنها سخرية القدر، حيث يصبح الضحية أداة، والجلاد متفرجاً، والصراع مجرد لعبة شطرنج، فموقفها بعدم المشاركة المباشرة، مع علمها بتفاصيل الهجوم، يؤكد على هذه الجدلية المعقدة لموازين “القوى”، حيث تسعى واشنطن لتحقيق أهدافها دون الانخراط المباشر، تاركةً إسرائيل لتنفيذ “العمل القذر” ، بينما تضمن استمرار قنوات التفاوض، وتجنب أي تصعيد قد يهدد تدفق النفط العالمي ، لقد كشف “هجوم الأسد الصاعد” عن عمق التناقض بين الضحية” و”الفاعل” في الهوية الإيرانية، فالفيديوهات التي خرجت تصور إيران كـ”بالونة فارغة” تنهار عند المواجهة الحقيقية، مع فشل دفاعاتها الجوية و الاستخباراتية الذريع، والاختراق غير الطبيعي للموساد الإسرائيلي لأراضيها.

هذا التصوير يضع إيران في موقف الضحية التي تعرضت لضربة قاسية كشفت عن ضعفها، لكنه في الوقت نفسه يبرزها كفاعل غير قادر على حماية نفسه، مما يتناقض مع خطابها القوي السابق، فالقيادات التي لم تُقتل اختبأت تحت الأرض، والمرشد الأعلى نفسه، الذي بقي على قيد الحياة، يُنظر إلى بقائه كقرار إسرائيلي أمريكي لضمان موافقته على شروط التفاوض، وكأنه دمية في مسرحية أكبر، إن هذا التحول الجذري في مكانة إيران الإقليمية، يفرض عليها إعادة تعريف هويتها ومكانتها في المنطقة، ويجعلها مجبرة على القبول بشروط التفاوض الأمريكية والإسرائيلية والخليجية، حتى لو ردت بضربات أخرى رمزية لحفظ ماء الوجه مع  توابعها و مليشياتها الإقليمية و حاضنتها الشعبية  .

في النهاية، تظل إيران، هذه الظاهرة المنحرفة بالشرق الأوسط ، سؤالاً بلا إجابة قاطعة، هل هي حقاً “دولة صياح وإرهاب”(بالتأكيد)، أم أنها ضحية لمؤامرات خارجية، أم أنها مجرد بالونة فارغة، تنتظر أن تنفجر؟ ربما هي كل ذلك و هي ضرورة امريكية واسرائيلية لحلب المنطقة ، وربما لا شيء من ذلك، ففي مسرح الوجود، حيث تتراقص الأمم على حبال القدر، وتتصارع الهويات في غبار التاريخ، تظل الحقيقة غامضة، والواقع مراوغاً، والسخرية السوداء هي اللغة الوحيدة التي يمكن أن تعبر عن هذا العبث الوجودي، إن ما حدث لإيران ليس مجرد هزيمة عسكرية، بل هو تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف ذاتها في عالم متغير، والبحث عن سبل جديدة لتأكيد مكانتها في ظل واقع إقليمي ودولي جديد، حيث انكسرت المرآة التي كانت تعكس صورتها الذاتية، وبات عليها أن تواجه حقيقة ضعفها في مواجهة قوة لم تكن لتتصورها .

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

عبد الرحمان زروال كاتبًا إقليميًا جديدًا للفضاء المغربي للمهنيين بمراكش

خولة العدراوي أسفر المؤتمر الإقليمي الخامس للفضاء المغربي