كريمة قروان*
ملخص:
عرفت المنظومة التعليمية المغربية، خلال السنوات الأخيرة، تحولًا لافتًا في علاقتها بالتقنيات الرقمية، خاصة عقب تفشي جائحة كوفيد-19 التي فرضت انتقالًا سريعًا نحو التعليم عن بعد كصيغة بديلة عن النمط الحضوري. هذا المقال يقارب هذا التحول من منظور سوسيولوجي، ساعيًا إلى تجاوز المقاربات التقنية أو التقريرية التي تختزل الرقمنة في بعدها الأداتي، نحو قراءة معمقة في منطق التدبير التربوي في زمن اللايقين. بالاستناد إلى مفاهيم سوسيولوجيا التنظيم، وسوسيولوجيا المخاطر، وسوسيولوجيا الفعل التربوي، يحاول التحليل تفكيك المسار الذي سلكته عملية مأسسة التعليم عن بعد بالمغرب، مبرزًا التوتر القائم بين الحوكمة الرقمية والإكراهات البيداغوجية اليومية.
ويركز المقال على رصد الإكراهات الميدانية التي واجهها الفاعلون التربويون خلال تفعيل هذه الصيغة التعليمية، سواء من حيث هشاشة التفاعل التربوي داخل الفضاء الرقمي، أو من حيث ضعف التكوين والدعم المهني المواكب. كما يتوقف عند المخاطر التنظيمية والبيداغوجية غير المرئية التي أفرزتها الرقمنة، باعتبارها لا تقتصر على بعد تقني، بل تلامس بنية السلطة، آليات اتخاذ القرار، وإنتاج المعنى داخل المؤسسة التعليمية.
وفي ضوء هذا التشخيص، يقترح المقال ملامح أولية لنموذج تكاملي في تدبير التعليم عن بعد، يجمع بين مقتضيات الحوكمة التربوية وخصوصيات الفعل البيداغوجي، من خلال تصور تشاركي، مرن، قائم على التقدير المهني والعدالة الرقمية. وبهذا المعنى، يُعد المقال مساهمة في إثراء النقاش السوسيولوجي حول رهانات الرقمنة التعليمية، وتحدياتها في السياقات المدرسية العربية.
الكلمات المفتاحية : التعليم عن بعد، الرقمنة التربوية، سوسيولوجيا المخاطر، الفعل التربوي، الحوكمة الرقمية، العلاقة البيداغوجية، ، المدرسة المغربية.
Résumé :
Le système éducatif marocain a connu, au cours des dernières années, une transformation significative marquée par une généralisation accélérée de l’enseignement à distance, particulièrement à la suite de la pandémie de Covid-19. Cet article propose une lecture sociologique critique de cette transition, en s’appuyant sur les apports de la sociologie des risques, de la sociologie de l’action pédagogique et de la sociologie des organisations. Il vise à mettre en lumière les tensions structurelles entre la volonté institutionnelle de numériser l’école et les contraintes pédagogiques quotidiennes vécues par les acteurs éducatifs.
À travers une analyse approfondie des dynamiques de gouvernance numérique, de la fragilité du lien pédagogique en environnement virtuel et du déficit de formation des enseignants, l’étude révèle l’émergence de risques organisationnels et pédagogiques invisibles, souvent occultés par les discours technocratiques. En croisant les données empiriques et les cadres théoriques, l’article plaide pour un modèle intégré de gestion de l’enseignement numérique, conciliant exigence technologique, reconnaissance professionnelle et équité éducative. Il s’agit ainsi de dépasser une approche purement instrumentale pour inscrire la numérisation de l’école dans une logique participative, humaine et contextualisée.
Mots-clés : Enseignement à distance, numérisation éducative, sociologie des risques, action pédagogique, gouvernance numérique.
المقدمة
أفرزت التحولات المتسارعة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، ولا سيما خلال جائحة كوفيد-19، لحظة مفصلية أعادت تشكيل التصورات التقليدية حول المدرسة، المعرفة، وأشكال التنشئة الاجتماعية. ففي خضم هذا السياق المأزوم، لم يكن التعليم عن بعد خيارًا بيداغوجيًا مدروسًا بقدر ما كان استجابة استعجالية فرضها منطق البقاء والاستمرارية، لتتحول هذه الممارسة، شيئًا فشيئًا، إلى رافعة خطابية ضمن المشاريع الإصلاحية والبرامج الرسمية. إلا أن هذا التحول لم يكن دائمًا مصحوبًا بتكييف بيداغوجي أو بإعداد تنظيمي ملائم، مما جعلنا أمام واقع مزدوج، تختلط فيه الرهانات المؤسسية بإكراهات التنفيذ التربوي.
في السياق المغربي، تبنّت الدولة هذا النمط من التعليم ضمن منطق المأسسة، عبر تضمينه في الوثائق الرسمية والاستراتيجيات القطاعية، كحل رقمي مرن يعزز نجاعة الأداء التربوي ويضمن ديمومة الخدمة التعليمية في حالات الطوارئ. غير أن هذا التموقع الجديد للتعليم عن بعد لم يخلُ من التوتر، إذ سرعان ما اصطدمت هذه المأسسة بواقع الممارسة اليومية داخل الفضاءات المدرسية، حيث تبرز صعوبات تتعلق بإعادة بناء العلاقة التربوية، ضعف التكوين المهني الرقمي، اختلالات التفاعل البيداغوجي، وفقدان الإطار الرمزي الذي يُعطي للعملية التعليمية معناها العلائقي والاجتماعي. وفي ظل هذا المفترق، يصبح التعليم عن بعد حقلًا سوسيولوجيًا غنيًا لإعادة التفكير في مفاهيم السلطة التربوية، التوجيه المركزي، التموقع المهني، وتمثلات الفاعلين.
إن هذا المقال لا يهدف إلى تقديم تقييم تقني لأداء التعليم الرقمي، بل يسعى إلى مقاربة الظاهرة من زاوية علم الاجتماع التربوي وسوسيولوجيا المخاطر، من خلال تحليل كيفيات تفاعل الفاعلين مع منطق المأسسة الرسمي، ورصد الاختلالات التي تنتج عن غياب ملاءمة بين الضبط الإداري والتفعيل البيداغوجي. وبناء على هذا المنظور، يتمحور التساؤل المركزي للمقال حول: كيف ينعكس مسار مأسسة التعليم عن بعد في المغرب على الممارسة البيداغوجية، في ظل التوتر القائم بين متطلبات التنظيم الإداري وإكراهات التفعيل التربوي داخل الفضاء الرقمي؟
للإجابة عن هذا السؤال، سيتم أولًا تتبع المسار المؤسساتي الذي اتخذته الدولة المغربية في تقنين التعليم عن بعد، من خلال تحليل السياسات العمومية التربوية والخطابات الرسمية. ثم سيتم الانتقال إلى تفكيك مظاهر الإكراه البيداغوجي في البيئة الرقمية من خلال رصد تمثلات الفاعلين التربويين، قبل أن يُختتم التحليل بقراءة تركيبية تستند إلى أدوات سوسيولوجيا المخاطر لفهم الدينامية المركبة التي تحكم علاقة المدرسة المعاصرة بالتكنولوجيا في زمن اللايقين التربوي.
إعادة تشكيل الحقل التربوي في ضوء مأسسة التعليم عن بعد: مقاربة سوسيولوجية لبنية القرار التربوي
من التكيف الاضطراري إلى الترسيم المؤسساتي: تطور المأسسة الرقمية في التعليم المغربي
شهد المغرب، كما باقي دول العالم، اضطرابًا عميقًا في منظومته التعليمية عقب تفشي جائحة كوفيد-19، إذ فرض السياق الصحي الطارئ إعادة ترتيب الأولويات التربوية بطريقة فجائية وغير مسبوقة. ولم يكن التعليم عن بعد، في مراحله الأولى، خيارًا تربويًا مخططًا له مسبقًا أو ناتجًا عن تفاعل استراتيجي بين مختلف الفاعلين داخل الحقل التربوي، بل جاء كحل اضطراري فرضه منطق الاستمرارية لا منطق الجودة. وقد شكّل هذا التحول المفاجئ ما يسميه علم الاجتماع التنظيمي بـــ«الوظيفة الظرفية للقرار»، أي تلك القرارات التي تنبع من ضغط خارجي أكثر من انبثاقها من تفاعل داخلي منظم بين بنيات الحقل. بهذا المعنى، شكّلت الرقمنة، في بداية الأمر، ممارسة طارئة لتدبير أزمة، لا آلية متكاملة لإصلاح نسق.
لكن المثير في التجربة المغربية هو ما يمكن وصفه بــ«ترسيم الاستثناء»، حيث تحوّل هذا النمط من التعليم، مع مرور الوقت، إلى أداة رسمية داخل السياسات التربوية. فبدل أن تظل التجربة محصورة في الظرفية، أفرزت دينامية مأسسة سريعة وغير مكتملة، انطلقت من القرارات الوزارية المؤقتة، ومرّت عبر المنصات الإلكترونية، لتُتوج بإدماج التعليم عن بعد ضمن الرؤية الاستراتيجية 2015–2030، وأيضًا ضمن الإطار البيداغوجي الجديد لنظام البكالوريوس بالجامعة المغربية. هذا المسار يجعلنا أمام حالة نموذجية لتحليل ما يسميه بورديو «التأثير غير المدروس لسلطة الدولة الرمزية»، حيث تتحول المبادرات التقنية إلى سياسات عمومية من خلال آلية الإضفاء المؤسسي للمعقولية، بغض النظر عن التقييم الواقعي للجدوى البيداغوجية.
ترافق هذا المسار مع إنتاج خطاب رسمي يُضفي على التعليم عن بعد بعدًا استراتيجيا جديدًا، يصوره كمؤشر على التقدم ومواكبة التحولات الرقمية العالمية، دون أن يوازيه فعليًا تحول بيداغوجي في العمق. إذ تم التركيز على تطوير المنصات والمحتويات الرقمية وتوزيع المعدات، بينما ظل التكوين المهني للأساتذة، وتحديث المناهج، ومواكبة التلاميذ نفسيًا وتربويًا، في مستويات متأخرة من الأولوية. وهو ما يعكس ما سماه بيك بـ«الحداثة المنفصلة عن مضمونها»، حيث تتبنى السياسات العامة آليات حداثية ظاهرية دون إعادة بناء المعنى الاجتماعي والفلسفي للفعل التربوي نفسه.
لقد كشف هذا الترسيم المتسارع عن سمات نمطية في تدبير القرار التربوي بالمغرب، أهمها استمرار منطق المركزية المفرطة، وضعف التشاور الأفقي مع الفاعلين الميدانيين، وغياب آليات التقييم التشاركي. وهو ما يكرّس ما يسميه علم الاجتماع التنظيمي بـ«الشرعية الإدارية المحضة»، أي تلك الشرعية التي تستند إلى التراتبية القانونية أكثر من استنادها إلى التجربة الاجتماعية للفاعلين أو إلى الأثر الواقعي للإجراءات المتخذة. ويتجلى ذلك بوضوح في الفجوة الواسعة بين الخطاب الرسمي الذي يحتفي بمأسسة التعليم الرقمي، وبين المعطيات الميدانية التي تشير إلى تفاوت كبير في التوفر على البنيات التحتية، والقدرات التكوينية، والدعم المؤسساتي، لا سيما في المناطق القروية والهامشية.
وعليه، فإن مأسسة التعليم عن بعد في السياق المغربي لا يمكن فهمها فقط من زاوية تقنية أو تدبيرية، بل يجب قراءتها كجزء من عملية إعادة تشكيل الحقل التربوي من خلال توازنات جديدة بين الفاعلين، وظهور علاقات سلطة مستجدة، وانتقال غير مكتمل من النمط الحضوري التقليدي إلى نموذج رقمي لم يستقر بعد في بنيته أو مرجعيته البيداغوجية. وهو ما يجعلنا في قلب ما يسمى في سوسيولوجيا التنظيمات بــ«التحول غير المتكافئ في منطق الحقل»، حيث تتحرك النظم الرمزية والقانونية بسرعة تفوق بكثير قدرة البنيات الثقافية والمهنية على التكيف معها، مما يخلق مناطق هشاشة تنظيمية ومخاطر بيداغوجية يصعب التحكم في آثارها على المدى المتوسط.
المأسسة الشكلية والفاعلون التربويون: حدود الإدماج البيروقراطي للممارسة البيداغوجية
إن المتمعّن في مسار إدماج التعليم عن بعد في المدرسة المغربية يلحظ أن هذا الانتقال لم يُبْنَ بالضرورة على سيرورة تشاركية تُعطي للفاعلين التربويين وضعية محورية في اتخاذ القرار، بقدر ما تَمثّل في إعادة إنتاج لمنطق إداري قائم على المقاربة التراتبية. فقد تم التعامل مع التعليم الرقمي، لا بوصفه أداة لإعادة بناء الفعل التربوي، بل كآلية إجرائية تُدرج في صلب منطق التدبير التقني للزمن والمحتوى الدراسي، مما جعله جزءًا من “مأسسة شكلية” تفتقر إلى الدينامية التفاوضية والتكوينية التي تجعل من الفاعل التربوي شريكًا لا مجرد منفّذ.
ويُقصد بالمأسسة الشكلية هنا ذلك النمط من الإدماج الذي يُضفي طابعًا رسميًا على الممارسة التربوية الرقمية من خلال النصوص والتنظيمات، دون أن يُواكبها تحول حقيقي في التمثلات، والمهارات، وأطر العمل البيداغوجية. إذ يتم إنتاج قواعد جديدة وإصدار مذكرات وزارية تفرض نماذج “التدريس عن بعد” دون منح الفاعلين الفرصة الكافية لإعادة فهم مهنتهم في هذا السياق الرقمي. وهو ما ينطبق عليه ما وصفه ميشال دوبوي بـ”التحكّم الرمزي في التغيير دون تمكين فعلي منه”، حيث تنشأ مسافة بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية، تولّد مشاعر باللامعنى المهني أو الإقصاء التربوي.
هذا التوتر يتجلّى بوضوح في تمثلات الأساتذة لمهنتهم خلال فترات التعليم عن بعد، إذ عبّر العديد منهم، في مقابلات ميدانية وشهادات منشورة، عن شعور بالإجبار على الاشتغال في بيئة غير مهيكلة، وغياب الاعتراف بخصوصية العمل البيداغوجي الذي يستند إلى الحضور الجسدي والعلاقة الإنسانية. فبدل أن تُراعى هذه الأبعاد التربوية الدقيقة، تم فرض مقاربات رقمية جاهزة تفتقر إلى الحس التربوي، وكأن المهمة التعليمية أصبحت تُختزل في تمرير المحتويات الرقمية لا في بناء المعنى المشترك مع المتعلمين. وهذا ما يعكس ما سمّاه بيير بورديو بـ”عنف الدولة الرمزي” حين تفرض السلطة التصورات التربوية وتُهمّش التجربة العيانية للمدرّسين.
وإذا كانت الوظيفة البيروقراطية للإدارة التربوية تقتضي بطبيعتها التنظيم والانضباط، فإن إدراج التعليم الرقمي داخل منطقها دون مرونة، قد يؤدي إلى انكسار العلاقة بين الفاعل والمنظومة. فالإدارة لا تعترف إلا بما هو قابل للقياس والتقنين، بينما البيداغوجيا هي مجال للّاتوقع، والهشاشة، والتفاعل المعقد. وهنا تتجلى الإشكالية المركزية: هل يمكن إقحام الفعل التربوي ضمن منطق الإجراءات الإدارية دون المساس بجوهره العلائقي؟ إن محاولة تطويع البيداغوجيا لمقتضيات “الحكامة الرقمية” قد تجعل منها عملية “مفقّدة للمعنى”، وتُفرغ التجربة التربوية من بعدها الإنساني.
وفي ظل هذا الوضع، تُطرح بحدة إشكالية “موقع الفاعل التربوي في القرار”، حيث يظهر الأستاذ، وفق أدبيات سوسيولوجيا التنظيم، كـ”فاعل منفذ” وليس كـ”فاعل مشارك”. بل تُغيب المؤسسة التربوية في العديد من القرارات التقنية المرتبطة بالرقمنة، لصالح بنيات فوقية تتخذ القرارات وتُنزّلها في شكل مذكرات ملزمة. وهذه الوضعية تعيد إنتاج منطق التهميش المؤسساتي الذي يُقزّم وظيفة الفاعلين الميدانيين، ويُضعف انخراطهم الفعلي في مشاريع الإصلاح. وهو ما أشار إليه تحليل حديث حول الحوكمة الرقمية للمدرسة حين أكد أن “الفاعلين يشعرون بأن الرقمنة جاءت ضدهم لا معهم”.
كما تبرز هذه الإشكالات بشكل خاص في غياب آليات المواكبة النفسية والتربوية للأطر التربوية خلال فترات اعتماد التعليم عن بعد، حيث وُضع العديد منهم في وضعيات مهنية مرهقة دون تدريب مسبق أو دعم تقني حقيقي، مما عمّق الشعور بعدم الانتماء إلى منطق الإصلاح، وجعل من الرقمنة عبئًا مؤسساتيًا لا أداة للتحسين. ولعل ما يعزّز هذا الشعور هو غياب منطق التدرج، واستبعاد المقاربة التجريبية التي تأخذ بعين الاعتبار السياقات المحلية، ومستوى الجاهزية الفردية والجماعية، وهو ما يجعل الإصلاح، في هذا الباب، مجرد إعلان شكلي دون مضمون فعلي.
إن تجاوز هذا الوضع لا يمر عبر تكثيف القرارات المركزية أو تسريع وتيرة الرقمنة، بل يستدعي إعادة التفكير في أدوار الفاعلين، ومكانة البيداغوجيا داخل النسق الإداري. فحين يتم بناء السياسة التعليمية من الأعلى دون إنصات للأسفل، تفقد قدرتها على التكيف، وتُصبح عرضة لما يسميه أولريش بيك “إنتاج المخاطر البطيئة” التي لا تنفجر فورًا، لكنها تُقوّض الممارسة التربوية تدريجيًا من الداخل.
الإكراهات البيداغوجية للتعليم عن بعد: نحو سوسيولوجيا للفعل التربوي في البيئات الرقمية
هشاشة التفاعل التربوي في الفضاء الرقمي: انقطاع العلاقة التعليمية وإضعاف الدور الرمزي للمدرس
لم يكن الانتقال نحو التعليم عن بعد مجرد تحوّل في الوسائط التكنولوجية، بل مثّل بالأحرى انتقالًا في أنماط التفاعل التربوي، وفي تمثلات الفاعلين لدورهم داخل المؤسسة التعليمية. ذلك أن العلاقة التربوية، كما تبلورت تاريخيًا، لم تكن يومًا علاقة تقنية خالصة، وإنما علاقة إنسانية مشروطة بالحضور، بالتبادل الحي، وبالتفاعل المباشر الذي يشكّل شرطًا لإنتاج المعنى وتثبيت السلطة الرمزية للمدرس. غير أن الفضاء الرقمي، كما تجلّى في تجربة التعليم عن بعد، بدا فاقدًا لهذه المقومات الجوهرية، ما جعله بيئة هشّة من حيث قابلية بناء علاقة تربوية فعالة. فالمدرس لم يعد مرجعية حية، بل تحوّل إلى صورة على شاشة، محاطًا بضجيج رقمي وغياب جسدي، ما أنتج نوعًا من «الانفصال البيداغوجي» الذي تزعزعت معه ركائز العلاقة التعليمية التقليدية.
هذا الانفصال لا يُقاس فقط بغياب التفاعل اللحظي، بل يتجلى أيضًا في تراجع المقومات الرمزية التي تمنح المدرّس سلطته التربوية. فوفقًا لمنظور علم الاجتماع البيداغوجي، تستمد السلطة التعليمية مشروعيتها من القدرة على التأثير داخل فضاء مشترك يُنتج فيه الفاعل التربوي الإيقاع، الإطار، والانضباط. لكن في الفضاء الرقمي، يتم تقويض هذه السلطة بفعل غياب الرقابة الحسية، وتشظي الانتباه، وتفكك الإيقاع الدراسي، ما يجعل التفاعل أفقًا مشوشًا أكثر منه بنية منظمة. ولعل هذا ما دفع العديد من الأساتذة، خلال المقابلات الميدانية، إلى التعبير عن شعورهم بـ”فقدان السيطرة” داخل الحصة الرقمية، وعن صعوبة إثارة الاهتمام أو الحفاظ على دينامية التواصل في ظل حضور افتراضي هش، بل في أحيان كثيرة، غائب تمامًا.
لقد أنتج هذا الوضع أشكالًا من «اللايقين التربوي»، حيث لم يعد المدرس متأكدًا من مدى فهم المتعلمين، ولا من مستوى انخراطهم، ولا حتى من وجودهم الحقيقي خلف الشاشة. وهنا تبرز خطورة ما يسميه إرفينغ غوفمان “إخفاق الطقس التفاعلي”، حيث تنهار الطقوس الدقيقة للتبادل الرمزي التي تؤسس لفعل التعليم، وتتحول الحصة إلى ممارسة تقنية معزولة عن بعدها العلائقي. فالمتعلم هو الآخر فقد الكثير من الإشارات البصرية والصوتية التي تساعده على إدراك الإيقاع التربوي، ما يجعل الفضاء الرقمي أقرب إلى بيئة تجريدية لا تُنتج تعلّمًا حيًا بقدر ما تُكرّس الصمت، التشتت، والانسحاب.
وإذا كانت هذه الوضعية قد ظهرت بحدة خلال تجربة التعليم عن بعد خلال فترة الجائحة، فإن آثارها ما زالت ممتدة إلى اليوم، حيث أصبحت تُمأسس بشكل ضمني نوعًا جديدًا من العلاقة الباردة بين المتعلمين والمدرّسين. فغياب التفاعل لا يمس فقط بالأداء البيداغوجي، بل يُقوّض الوظائف الاجتماعية للمدرسة، من قبيل التنشئة، الضبط الرمزي، والإدماج التربوي. وهذه التحولات تضعنا أمام إشكالية حقيقية تتعلق بما إذا كانت الرقمنة قادرة فعلاً على تعويض الحضور التربوي، أم أنها تُنتج نموذجًا تعليميًا منقوصًا، يفتقر للبعد الإنساني. فالمؤسسة التعليمية لا تُختزل في تمرير المعرفة، بل في بناء العلاقة، التفاوض الرمزي، وتدبير الغموض، وكلها مقومات يصعب اختزالها في منصة رقمية.
ولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن المؤسسة التربوية، وهي تنخرط في منطق الرقمنة، لم تواكب هذا التحول بتحليل سوسيولوجي حقيقي لبنية العلاقة التعليمية في الفضاء الرقمي. بل تم التركيز على البنية التقنية والإجراءات التنظيمية، في حين أُهملت الأسئلة الجوهرية حول المعنى، السلطة، والدور. وهذا ما جعل التفاعل الرقمي يشبه في كثير من الأحيان طقسًا شكليًا خالٍ من المحتوى التربوي الحقيقي. إذ لا يكفي أن يكون هناك اتصال تقني لكي نقول إن هناك تواصلاً تربويًا، لأن هذا الأخير مشروط بما يسميه دوركهايم «الرابط الاجتماعي المنظّم»، وهو ما غاب في التجربة الرقمية أو حضر بضعف وارتباك.
إن ما نحتاجه اليوم، هو إعادة بناء مقاربة تربوية جديدة تُنزل الفعل التعليمي الرقمي من فضائه التجريدي إلى سياقه الاجتماعي، وتستحضر مركزية العلاقة الإنسانية في كل تخطيط بيداغوجي. ذلك أن هشاشة التفاعل ليست مجرد عائق مؤقت، بل هي مؤشر على أزمة عميقة في تمثل الفعل التربوي في زمن الرقمنة. والجواب عن هذه الأزمة لا يمكن أن يكون تقنيًا، بل ينبغي أن يكون سوسيولوجيًا، بيداغوجيًا، وإنسانيًا في العمق.
ضعف التكوين والدعم البيداغوجي: إكراهات التنزيل وأثرها على المردودية التربوية
إن الحديث عن التعليم عن بعد لا يمكن فصله عن سؤال الجاهزية المهنية للفاعلين التربويين، باعتبار أن أي انتقال في الوسائط التعليمية يقتضي بالضرورة انتقالًا موازيًا في الكفايات المعرفية والعملية. غير أن ما شهده المغرب في هذا المجال يُظهر بجلاء أن هذا البعد ظل غائبًا أو حاضرًا بشكل هش، إذ تم تنزيل التعليم الرقمي دون أن يُصاحبه مشروع تكويني شامل يُعيد تشكيل ملامح الهوية المهنية للمدرّس، ويدمج أدوات جديدة في ممارساته اليومية. وهو ما جعل الفعل التربوي، في السياق الرقمي، يتأرجح بين المبادرة الفردية العفوية والتوجيهات العمودية المجزأة، في ظل غياب إطار مؤسساتي واضح للدعم البيداغوجي المستدام.
فمن الناحية السوسيولوجية، يتطلب التعليم الرقمي نمطًا جديدًا من الفاعلين، ممن يمتلكون ليس فقط المهارة التقنية في استخدام المنصات، بل أيضًا القدرة على بناء تفاعل رمزي في بيئة غير مادية. لكن هذا التحول لم يُدمج في التكوين الأساس ولا في برامج التكوين المستمر، بل غالبًا ما تُرك للأساتذة أن يتدبروا أمرهم اعتمادًا على خبراتهم الذاتية أو تبادلهم المحدود داخل شبكات مهنية غير مؤطرة. وهو ما يؤشر على هيمنة ما يمكن تسميته بـ”التعلم الدفاعي”، أي تلك الكفايات التي تُكتسب تحت ضغط الواقع بدل أن تُبنى وفق تخطيط مسبق.
ويُضاف إلى ذلك أن قنوات الدعم البيداغوجي ظلت تقليدية وغير متكيفة مع رهانات البيئة الرقمية. فالمفتشون، والمرشدون، وحتى الإدارات التربوية، وجدوا أنفسهم في حالة ارتباك، لعدم توفرهم بدورهم على أدوات الاشتغال المناسبة، مما أنتج حالة عامة من “اللااستقرار التكويني”، انعكست بشكل مباشر على فعالية الدروس الرقمية، ومستوى التفاعل مع المتعلمين. وهو ما يفسر، في كثير من الحالات، ضعف المردودية التربوية للتعليم عن بعد، وارتفاع نسب الانقطاع أو التململ، خاصة في المستويات التعليمية الدنيا، التي تعتمد على التوجيه الحي والمرافقة المباشرة.
في هذا السياق، تُطرح بإلحاح مسألة «الحق في التكوين» كشرط لبناء مدرسة رقمية عادلة وناجعة. فالفجوة لم تكن فقط بين التلاميذ من حيث الولوج إلى الأدوات، بل شملت أيضًا الأساتذة من حيث التأهيل والدعم، ما عمّق التفاوتات داخل الحقل التربوي نفسه. فبين مدرس متمكن رقميًا وآخر غير مهيأ، تظهر “طبقات مهنية جديدة” داخل نسق التدريس، تشكّل مصادر تفاوت في الأداء والنتائج، ما يهدد وحدة المعايير البيداغوجية ويُقوّض مبدأ الإنصاف التربوي. وهو ما تنبهت إليه مؤخرًا بعض الدراسات المغربية، حين نبهت إلى أن غياب الرؤية التكوينية يجعل من الرقمنة أداة تفتيت أكثر منها أداة تجويد.
ويُعمّق هذا الإشكال أن التكوينات المتوفرة، وإن وُجدت، تظل غالبًا موسمية، ذات طابع نظري أو محاضراتي، دون أن تُستثمر كمسارات مهنية تُرافق المدرّس في بناء مشروعه التربوي داخل البيئة الرقمية. بل تفتقر إلى المقاربة السوسيولوجية التي تُسائل العلاقة بين التكنولوجيا والسلطة، بين الرقمنة والهوية المهنية، وبين التحوّل الوسائطي والتحوّل التربوي. وهو ما يجعل أغلب التكوينات التقنية تتجاهل “الفاعل التربوي بوصفه كائنًا علائقيًا”، لا مجرد مستخدم لتطبيقات أو أدوات.
في ضوء ذلك، يصعب الحديث عن نجاعة للتعليم عن بعد دون مراجعة جذرية لمنظومة التكوين والدعم البيداغوجي في المغرب. فالمردودية التربوية ليست فقط نتاجًا للوسائط، بل هي نتيجة لتفاعل معقد بين الفاعل، البيئة، المرجعية، والدعم المؤسسي. وبالتالي، فإن أي مشروع لإصلاح التعليم الرقمي يظل ناقصًا ما لم ينبنَ على تصور متكامل يضع “التمكين المهني” في صلبه، ويربط الكفاية التقنية بالكفاية التربوية والاجتماعية.
التعليم عن بعد كسياق محفوف بالمخاطر: نحو قراءة سوسيولوجية لمنطق التدبير في ظل اللايقين التربوي
الرقمنة التربوية بوصفها منتجة للمخاطر التنظيمية والبيداغوجية غير المرئية
في الوقت الذي يُروَّج فيه للرقمنة التربوية كآلية لتحسين الأداء ورفع جودة التعلم، يُخفي هذا الخطاب المهيمن بعدًا آخر أكثر تعقيدًا يتصل بطبيعة المخاطر التي تُنتجها السياسات الرقمية في الحقل التربوي، لا سيما تلك التي يصعب رصدها بالطرق التقليدية. فالتحول الرقمي، وإن بدا في ظاهره تقدمًا تكنولوجيًا، يحمل في عمقه منطقًا تدبيريًا مشبعًا بعدم اليقين، يُعيد تشكيل علاقات السلطة، آليات اتخاذ القرار، وتمثلات الفاعلين لأدوارهم. وهو ما يجعل الرقمنة، من منظور سوسيولوجيا المخاطر، ليست مجرد أداة تقنية، بل منتجًا لبُنى هشّة، غالبًا ما تُخفي اختلالاتها خلف واجهات الحداثة والنجاعة.
إن أولى هذه المخاطر تتجلى في الطابع غير المرئي لاختلالات التدبير، حيث تُضفى على التعليم الرقمي شرعية مؤسساتية قائمة على المؤشرات الكمية ونسب الإنجاز، دون الوقوف عند المضمون التربوي الفعلي أو أثره على المتعلمين. فحين يُقاس نجاح التعليم الرقمي بعدد الفصول الافتراضية المنشأة، أو عدد المتصلين بالمنصات، تُختزل العملية التربوية في مجرد نشاط تقني منزوع الدلالة. وهنا تظهر “المخاطر التنظيمية غير المحسوبة”، أي تلك التي تنشأ عن التركيز المفرط على الأداء الإداري على حساب الفعل التربوي الحي، مما يولد فجوة خطيرة بين مخرجات النظام ومقاصده الجوهرية.
يتعزز هذا المعطى بانتقال المركز التقريري من الحقل التربوي إلى الحقل التقني، إذ لم تعد القرارات الحاسمة تُبنى انطلاقًا من الحاجات البيداغوجية، بل من معايير قابلة للرقمنة والمراقبة، كما لو أن المدرسة أصبحت تُدار وفق منطق لوغاريتمي لا تربوي. وهذا ما يسميه بيك بـ”حكم الخوارزميات”، حيث يُدار الفعل الإنساني انطلاقًا من معايير تقنية مغلقة، لا تُفسح مجالًا للتقدير البشري أو التكيف السياقي. وفي هذا السياق، يصبح المدرّس مطالبًا بتنفيذ تعليمات رقمية جاهزة، غالبًا ما تُنتَج من طرف إدارات أو شركات تقنية بعيدة عن واقع الفصل الدراسي، ما يُضعف من استقلاليته المهنية، ويُقوّض سلطته التربوية.
وتنبثق من هذا الوضع مخاطـر بيداغوجية صامتة، تتجلى في تآكل العلاقة بين المتعلم والمحتوى، إذ تصبح المعرفة في صيغتها الرقمية محتوى منزوع السياق، يُقدّم في شكل شرائح أو وحدات جاهزة، مما يُفقدها بعدها الجدلي والإنساني. فبينما تقوم البيداغوجيا على بناء المعنى من خلال التفاوض والتأويل والسؤال، تُحوّل الرقمنة المعرفة إلى منتج للاستهلاك السريع، يهدد بإفقاد المتعلم حسّه النقدي ويقزّم دوره إلى متلقٍ سلبي. ولا يقتصر الأمر على التلميذ، بل يطال أيضًا الأستاذ الذي يتحول إلى وسيط بين منصة وملف، فاقدًا لحريته التربوية ومقيدًا بخوارزميات جاهزة.
وما يُعمّق خطورة هذه المخاطر هو طابعها غير المرئي، إذ يصعب رصدها لأنها لا تُعلن عن نفسها مباشرة، بل تتسلل إلى البنية التربوية بشكل تدريجي، ما يجعلها أكثر استعصاءً على المواجهة. وهو ما يجعل المدرسة عرضة لعملية “تطبيع مع المخاطر”، أي تحويل ما يُفترض أن يكون استثناءً إلى قاعدة، وما ينبغي أن يُسائل إلى إجراء روتيني. وهنا تتجلّى أهمية التحليل السوسيولوجي الذي لا يكتفي بوصف الظواهر، بل يُعرّي التناقضات البنيوية التي تُنتجها السياسات التعليمية تحت غطاء التقدم التكنولوجي.
أمام هذا الواقع، يصبح من الضروري إعادة التفكير في منطق تدبير الرقمنة داخل الحقل التربوي، ليس كتحول تقني، بل كممارسة اجتماعية تتطلب شروطًا ثقافية ومؤسساتية تضمن التوازن بين المردودية والانخراط، بين التتبع التقني والمعنى التربوي، وبين التدبير المركزي والمرونة المحلية. فالتعليم الرقمي، متى أُفرغ من بُعده الإنساني، يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج اللامساواة وتعميق الشعور بالتجريد، بدل أن يكون مدخلًا لإعادة بناء المدرسة كمجال للتفاعل والتكوين.
نحو نموذج تكاملي لتدبير التعليم عن بعد: التوفيق بين الحوكمة الرقمية والمقتضيات التربوية
إن إدماج التعليم عن بعد في المنظومة التربوية لا يمكن أن يظل رهين منطق تقني صرف أو تدبير عمودي مبني على الامتثال للمعايير الرقمية الجاهزة. فالتحدي الحقيقي يكمن في القدرة على بناء نموذج تكاملي يأخذ في الاعتبار توازنًا دقيقًا بين منطق الحوكمة الرقمية، وما يقتضيه الفعل التربوي من مرونة، تفاعل، وتقدير للخصوصيات السياقية. وفي هذا الإطار، تُطرح مسألة التدبير كمدخل سوسيولوجي لفهم الكيفية التي تُبنى بها السلطة التربوية في زمن الرقمنة، ليس فقط بوصفها سلطة مراقبة ومحاسبة، بل كقدرة على التوجيه، الإقناع، وبناء الالتزام الجماعي.
فالحوكمة الرقمية، وإن ارتبطت غالبًا بمفاهيم التتبع والنجاعة والرقابة من خلال المؤشرات، فإنها لا يمكن أن تظل منفصلة عن الديناميات البيداغوجية الميدانية، وإلا تحولت إلى مجرد إعادة إنتاج للتراتبية البيروقراطية في قالب إلكتروني. ذلك أن المدرسة ليست مؤسسة رقمية بالمفهوم التقني، بل فضاء اجتماعي مركب، تحكمه علاقات سلطة، رموز، وتمثلات، تتطلب إدارة حساسة للمعاني والتفاعلات. وهذا ما يفرض اعتماد تصور تكاملي للتدبير الرقمي، يستند إلى مبادئ التشاركية، الإدماج، وتعدد الأصوات، بدل الاكتفاء بالتنزيل من الأعلى.
ويُعدّ هذا النموذج ضروريًا لتجاوز الوضعية التي أفرزت ما يمكن تسميته بـ”التوتر البنيوي بين منطق المنصة ومنطق الفصل”، حيث تصطدم الأطر البيداغوجية بمحدودية الموارد الرقمية، وغياب المرونة المؤسسية، وضعف التأطير المواكب. فبدل الدفع في اتجاه نمذجة الفعل التربوي عبر تطبيقات وواجهات تقنية، ينبغي الاشتغال على ما يسميه علم الاجتماع التربوي بـ”إعادة الشرعنة التربوية للممارسة”، أي استعادة سلطة الأستاذ في التأطير، وإعادة الاعتبار لمساهمته في بناء المعرفة، لا فقط في نقلها عبر الوسائط.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إعادة هيكلة مقاربة التكوين والدعم، بحيث لا تقتصر على تمكين الفاعلين من أدوات تقنية، بل تتوجه نحو تطوير رؤى بيداغوجية جديدة تدمج الرقمي ضمن منطق تعليمي إنساني. ويتطلب ذلك إحداث وحدات مصاحبة للرقمنة على مستوى المؤسسات التعليمية، تعمل على مواكبة الفاعلين، توثيق تجاربهم، وإنتاج معرفة ميدانية تراكمية حول جدوى التعليم عن بعد في سياقات متباينة. فكما تُنتج الرقمنة مخاطر غير مرئية، يمكن للتدبير العقلاني أن يُنتج آليات احتراز ووقاية، شريطة أن يكون منفتحًا على التجريب، النقد، والتكييف المحلي.
إن التوفيق بين الحوكمة الرقمية والمقتضيات التربوية لا يعني التنازل عن مؤشرات الفعالية أو المعايير التنظيمية، بل يستوجب دمجها ضمن نسق أوسع يُعيد للمدرسة دورها كمؤسسة لبناء المعنى، لا فقط إنتاج النتائج. من هنا، تصبح الرقمنة وسيلة وليس غاية، وتتحول الحوكمة إلى ممارسة تفاوضية بين مستويات القرار المختلفة، تسمح بإعادة توزيع السلطة التربوية، وتقليص الفجوة بين واضعي السياسات وممارسيها. وهو ما يدعو إلى تصور جديد للمساءلة، يتجاوز المنطق العقابي نحو منطق المصاحبة، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ”الذكاء التدبيري التربوي” في زمن اللايقين.
ففي عالم تتزايد فيه أشكال الهشاشة الاجتماعية والتربوية، لا يمكن للسياسات التعليمية أن تستمر في تسيير المدرسة بمنطق الأدوات دون فهم للمعاني. والمطلوب اليوم هو نموذج تدبيري يقر بالمخاطر، ويشتغل على احتوائها من الداخل، عبر تفعيل آليات التعلم المؤسسي، وتحفيز الفاعلين على بلورة حلول من صميم تجاربهم. وبهذا المعنى، يمكن للرقمنة أن تتحول من مصدر تهديد إلى أفق إمكان، شرط أن تُؤطَّر داخل مشروع تربوي تشاركي، يُعلي من قيمة الفعل، ويمنح الاعتبار للإنسان كقيمة مركزية في كل سياسة تعليمية.
الخاتمة
إن تحليل تجربة التعليم عن بعد في السياق المغربي يكشف عن مفارقة جوهرية تتمثل في تقاطع مسارين متعارضين: من جهة، نزوع مؤسساتي متسارع نحو ترسيم الرقمنة كخيار رسمي في السياسات التربوية، ومن جهة أخرى، استمرار مقاومات بيداغوجية ومهنية تكشف هشاشة هذا الإدماج وافتقاره إلى التمكين الحقيقي للفاعلين التربويين. فالتحول الرقمي، كما بيّنا، لم يأتِ كثمرة لتراكم معرفي وممارسة جماعية منفتحة على الفعل الميداني، بل ظهر كرد فعل ظرفي أملته الضرورة، سرعان ما اتخذ طابعًا تنظيميًا دون أن يستكمل شروطه المفاهيمية والبيداغوجية.
ومن منظور سوسيولوجي، فإن هذا التحول لا يمكن قراءته فقط من زاوية التغيير التكنولوجي، بل يتطلب مساءلة عميقة لبنية القرار التربوي، والعلاقات السلطوية داخل الحقل، والكيفية التي يتم بها بناء الشرعية الرمزية لسياسات الإصلاح. فمأسسة التعليم عن بعد، كما ظهرت في الخطابات الرسمية، اعتمدت منطقًا إداريًا يركّز على التعميم والتقنين، دون اعتبار كافٍ لمكانة الفاعل التربوي أو طبيعة العلاقة التعليمية بوصفها علاقة إنسانية تقوم على الحضور، والتفاعل، والاعتراف المتبادل. وهو ما أفرز في نهاية المطاف توترًا بنيويًا بين منطق الحوكمة الرقمية ومنطق الفعل البيداغوجي اليومي.
لقد أبان هذا الوضع عن إنتاج مخاطر غير مرئية، سواء على المستوى التنظيمي، من خلال تغليب منطق المنصة على منطق الفصل، أو على المستوى البيداغوجي، عبر تآكل العلاقة التعليمية وضعف التكوين والدعم. وهذه المخاطر لا تندرج ضمن ما يمكن ملاحظته مباشرة، بل تنتمي إلى ما وصفه علماء الاجتماع بـ”اللايقين البنيوي”، حيث تشتغل السياسات بآليات مغلقة، وتُفرز آثارًا معقدة لا تظهر إلا بعد حين، وتؤثر على المعنى، والانتماء، والمردودية في آن واحد.
وأمام هذا السياق المتشابك، تبرز الحاجة إلى تصور جديد لتدبير التعليم الرقمي، يقوم على التوفيق بين مقتضيات الحوكمة ومتطلبات الفعل التربوي الحي. نموذج لا ينطلق من التكنولوجيا كغاية، بل يُدمجها ضمن رؤية إنسانية تعتبر العلاقة التربوية مركزًا للمعنى، وترى في المدرّس ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل فاعلاً منتجًا للمعرفة والمعنى، عبر أدوات قد تكون رقمية، لكنها لا يمكن أن تكون بديلة عن الحضور الإنساني في عمقه.
لذلك، فإن أي تفكير في المستقبل الرقمي للمدرسة لا يمكن أن يظل أسير التقنيات أو الإكراهات الظرفية، بل يجب أن ينبني على تحليل سوسيولوجي نقدي يُنصت إلى الأصوات المهمّشة في الحقل، ويمنح أولوية لتجارب الفاعلين، ويعيد بناء العلاقة بين المركز والقاعدة، بين المؤسسة والسياسة، بين التوجيه والتفعيل. فالتعليم عن بعد، في حد ذاته، ليس خطرًا، وإنما يصبح كذلك حين يُنزّل بمنطق إداري صلب، دون تكييف بيداغوجي، ودون أن يُستثمر كأداة لتمكين المدرسة من تجاوز أزمتها التاريخية في علاقتها بالمعرفة، والسلطة، والتفاعل.
وفي نهاية هذا التحليل، يتضح أن المدرسة المغربية، وهي تعيد صياغة علاقتها بالرقمنة، مدعوّة إلى إعادة بناء مشروعها التربوي من داخل مفهوم “الفاعلية الاجتماعية للتقنيات”، لا من منطق التبعية أو الامتثال. فحين يتم التفكير في الرقمنة كتجربة بشرية، وليس فقط كأداة تقنية، فقط حينها يمكن أن تتحول إلى فرصة لا إلى مصدر هشاشة، وإلى أفق للتجديد لا إلى نسق لإعادة إنتاج الأعطاب القديمة بثوب رقمي جديد.
قائمة المراجع
المراجع العربية:
الأزهر، هدى. التكوين التربوي والانتقال الرقمي: أزمة المفاهيم والممارسات. مراكش: منشورات كلية علوم التربية، 2023.
برادة، نوال. مهن التربية والتكوين في ظل التحول الرقمي: دراسة سوسيولوجية. الرباط: منشورات المعهد المغربي للتكوين والبحث التربوي، 2023.
بلقاسم، سامية. الرقمنة والتعلم: قراءة في التحولات التربوية بعد الجائحة. الدار البيضاء: المركز المغربي للبحث التربوي، 2024.
بورديو، بيير. أسئلة في التربية. ترجمة حسن مصدق. الدار البيضاء: منشورات ملتقى الطرق، 2024.
بوزيان، نادية. الدولة والرقمنة التربوية: تحليل نقدي للسياسات التعليمية بالمغرب. فاس: المركز المغربي للبحث في العلوم الاجتماعية، 2024.
الجوهري، أسماء. سوسيولوجيا التنظيمات التربوية في زمن الأزمات. الرباط: منشورات كلية علوم التربية، 2023.
خروبي، الحسن. تكنولوجيا التعليم وسؤال الجاهزية: رصد لإكراهات التنزيل في الوسط المدرسي المغربي. الدار البيضاء: مركز الدراسات التربوية والاجتماعية، 2024.
دوبوي، ميشال. علم الاجتماع النقدي للسلطة الرمزية. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022.
زروقي، ياسين. التدبير الرقمي للمدرسة المغربية: مقاربة نقدية في ضوء سوسيولوجيا المخاطر. مكناس: منشورات جامعة مولاي إسماعيل، 2023.
زين الدين، نبيل. التحول الرقمي في المدرسة المغربية: من التبعية التقنية إلى التدبير التشاركي. الدار البيضاء: المركز المغربي للسياسات التربوية، 2023.
السالمي، يوسف. الفعل البيداغوجي وسلطة التفاعل في المدرسة الرقمية. الرباط: منشورات جامعة محمد الخامس، 2023.
شريف، ليلى. المعرفة الرقمية وتفكك البنية البيداغوجية: نحو نقد للمنصة التعليمية. فاس: المركز المغربي للتنمية التربوية، 2025.
العروي، حسام. التربية في زمن اللايقين: مخاطر التحول الرقمي بالمغرب. الدار البيضاء: منشورات جامعة الحسن الثاني، 2025.
علوي، عبد الكبير. الرقمنة والتكوين المستمر في المؤسسات التعليمية: نحو بناء نموذج تكاملي. الرباط: منشورات كلية علوم التربية، 2025.
العيساوي، فاطمة. الفاعلون التربويون في ظل الرقمنة: قراءة في التحولات المهنية. طنجة: منشورات المركز المغربي للسياسات العمومية، 2025.
المراجع الفرنسية:
Beck, U. La société du risque : sur la voie d’une autre modernité. Paris : Flammarion, 2022.
Beck, U. La société du risque revisitée: vers une critique sociologique de la modernisation. Paris : PUF, 2024.
Charlier, J.-É. L’école numérique entre gouvernance et pédagogie: tensions et régulations. Bruxelles : De Boeck Supérieur, 2022.
Durkheim, É. L’éducation, sa nature et son rôle. Lyon : Presses Universitaires de Lyon, 2023.
Goffman, E. Les rites d’interaction. Paris : Minuit, 2022.
Hamzaoui, K. Formation des enseignants et usages du numérique: enjeux, freins et perspectives. Tunis : Presses Universitaires de la Méditerranée, 2025.
Leclercq, V. Gouverner l’école numérique: Participation et exclusion des acteurs éducatifs. Bruxelles : Éditions Academia, 2022.
Maroy, C. Gouverner par les données: enjeux sociopolitiques de l’éducation numérique. Bruxelles : De Boeck Supérieur, 2022.
Massé, B. Gouverner l’école à l’ère du numérique : logiques, tensions et nouvelles configurations. Lyon : Presses Universitaires de Lyon, 2023.
Mottet, J.-L. Gouverner l’éducation en temps d’incertitude: pour une intelligence collective du risque. Paris : PUF, 2024.
Zahidi, L. Enseigner à l’ère numérique au Maroc: entre inégalités et bricolages. Paris : L’Harmattan, 2022.
* طالبة باحثة في سلك الدكتوراه
مختبر العلوم الاجتماعية والتحولات المجتمعية
كلية الاداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض مراكش