ياسر اليعقوبي*
يؤكد المفكر المغربي “عبد الله العروي” أن لا معنى لأي مشروع سياسي دون قاعدة معرفية صلبة تلامس نبض المجتمع وتفكك إشكالاته.
في صميم النموذج التنموي الجديد الذي ينشده المغرب، يبرز إشكال عويص يتمثل في فاعلية ومصداقية الحقل السياسي. فبينما تحتل الدولة، عبر أجهزتها التكنوقراطية، مركز الصدارة في تصميم وتنفيذ الاستراتيجيات الكبرى، يتقهقر دور الأحزاب السياسية في صياغة السياسات العمومية وتنزيلها إلى هامش المشهد. هذا الانزياح يطرح أسئلة جوهرية حول حقيقة الخيار الديمقراطي ومستقبل التمثيلية في المملكة.
– أزمة الفاعل:
بنية تحتية متصدعة للحياة الحزبية.
تكشف المعاينة الموضوعية عن إشكاليات بنيوية تعاني منها جل الأحزاب المغربية:
1. فقر الموارد وعقم التشخيص:
تعاني معظم التشكيلات من شحٍّ كارثي في الموارد البشرية المؤهلة والتمويل المستدام. كما قال الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس”: الفعل التواصلي الجوهري هو شرط إمكانية الديمقراطية الحقة.
هذا العوز يحول دون القيام بدراسات ميدانية معمقة، أو إنتاج تشخيصات دقيقة للواقع الاجتماعي والاقتصادي، أو بلورة رؤى استراتيجية جريئة ومتماسكة.
2. تآكل المضمون وارتهان الخطاب: نتيجة هذا العوز، يفتقر النقاش السياسي غالباً إلى الجوهر، ويتحول إلى مجرد خطاب انتخابوي أو شعبوي أو صراع على المغانم.
و هنا تبرز الحاجة للإخلاص في العمل العام، كما جسده الزعيم الهندي “المهاتما غاندي” بقوله: الإخلاص في القول والفعل هو أساس كل فضيلة.
3. انفصال النخب وتآكل الجسور:
أدى هذا الوضع إلى هوة سحيقة بين الطبقة السياسية التقليدية وبين الشباب والنخب الفكرية والكفاءات الوطنية، الذين يرونها غير قادرة على تمثيل طموحاتهم أو فهم تحولات مجتمعهم.
يصف المفكر “محمد عابد الجابري” جزءاً من هذه المعضلة بقوله: أزمة الفكر السياسي العربي هي أزمة أدوات ومناهج قبل أن تكون أزمة مبادئ.
هذا الانفصال يتناقض مع نموذج الأحزاب في الدول الاسكندنافية حيث يتم استقطاب الكفاءات بشكل منهجي.
– التكلفة الديمقراطية أوالانهيار الصامت.
هذا الوضع ليس مجرد إشكال تنظيمي، بل له كلفة ديمقراطية باهظة:
. تراجع الثقة و هدم الشرعية:
يشهد المغرب أزمة تمثيل صامتة، تتجلى في تدني نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، خاصة لدى الشباب، وفقدان الثقة المتزايد في المؤسسات التمثيلية. كما حذر عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر”: شرعية النظام السياسي هي رصيد لا يُقدَّر بثمن. وقد أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله على أهمية الثقة بقوله: الثقة كالزجاج، سهلة الكسر وصعبة الإصلاح.
. انسحاب المواطن وتقلص الفضاء العام:
ينعكس هذا في عزوف المواطن عن الشأن العام، وتراجع روح المبادرة والانخراط المدني البناء، مما يضعف النسيج الاجتماعي ويحد من طاقة التغيير الإيجابي. يقول الفيلسوف الفرنسي “ألكسيس دو توكفيل” في كتابه (الديمقراطية في أمريكا): قوة المجتمع تكمن في انخراط مواطنيه النشيطين في الشأن العام.
. هدر الطاقات وإعاقة التحول:
تفقد البلاد فرصاً ثمينة لاستقطاب الكفاءات والخبرات القادرة على المساهمة الفعالة في عملية البناء والتحول المنشود، فتظل حبيسة حلقة التسيير التكنوقراطي بعيداً عن الشرعية السياسية الواسعة.
– عطب البنية:
أحزاب في مواجهة عصرها.
يكشف التشخيص عن بنية حزبية تعاني من أعراض “الهرم” و”الجمود”:
. تكلس الهياكل وتجمد الدماء:
تسود هياكل داخلية مغلقة وضعيفة التداول، تكرس الزعامات التقليدية وتحد من انخراط القواعد وخاصة الشباب والنساء، بعيداً عن النموذج الديمقراطي الداخلي الذي طبقته أحزاب مثل (حزب العمال البريطاني) تحت قيادة توني بلير.
رغم أن القوانين الانتخابية شجعت من خلال حصة مهمة للنساء، على الدفع بخيار التمييز الإيجابي، غير أن مبدأ المعايير و الأهلية في المترشحات، كرست الدفع بالمقربين و سيادة الزبونية على حساب الكفاءة.
. استنزاف الفكر وغياب البوصلة:
تعاني المرجعيات الفكرية من فقر وتشوش، فغابت الرؤى الإيديولوجية المتميزة والملهمة التي تستجيب لتحديات العصر المعقدة (الرقمنة، العدالة المناخية، التنمية البشرية، الهوية في عولمة…). كما يقول الفيلسوف الأمريكي “جون رولز”: العدالة كإنصاف هي الأساس المتين لأي مشروع سياسي مقنع.
. انفصال البرامج وتهافت الوعود:
تفتقر البرامج الحزبية (إن وجدت) إلى الواقعية والجرأة والانسجام، وغالباً ما تكون مجرد وعود عامة لا ترتكز على تشخيص علمي ولا تقدم حلولاً عملية مبتكرة للتحديات الراهنة والمستقبلية.
مقترحات للتجديد:
ورشة مزدوجة للإنقاذ.
الخروج من هذا المأزق يتطلب جرأة في فتح ورشين متلازمين:
1. التجديد الفكري والمرجعي:
إعادة البناء من الجذور.
أ. إعادة تعريف الهوية:
على كل حزب أن يعيد تعريف هويته ومرجعيته وقيمه الأساسية في سياق التحولات المجتمعية والثقافية العميقة.
ما الذي يميزه حقاً؟
وما قيمه الجوهرية غير القابلة للمساومة؟
هنا يبرز دور الإخلاص للمبادئ، كما قال الزعيم الأمريكي “ابراهام لنكولن”: أهم إخلاص هو الإخلاص للحقيقة ولضميرك.
ب. استيعاب التحولات: ضرورة تطوير أدوات فكرية قادرة على فهم واستيعاب التحولات الكبرى وبلورة رؤى استشرافية تعيد وصل الحزب بمختلف شرائح المجتمع، وخاصة الشباب، مستفيدين من تجارب دول مثل (سنغافورة) في التخطيط الاستراتيجي.
ت. الحوار الوطني الجاد: تشجيع حوار وطني شامل حول النموذج المجتمعي المنشود، تتقدم الأحزاب بمشاريعها الفكرية الواضحة ضمن هذا النقاش، بعيداً عن القوالب الجاهزة.
2. التجديد البرامجي والمؤسساتي:
من النظرية إلى الممارسة.
أ. بناء برامج واقعية وجريئة: الانتقال من الشعارات الرنانة إلى بناء برامج سياسية متكاملة، تستند إلى تشخيص دقيق (باستخدام مراكز بحثية مستقلة)، وتقدم حلولاً عملية وقابلة للتنفيذ، وتتسم بالجرأة لمواجهة التحديات الكبرى. يقول الاقتصادي الأمريكي “جوزيف ستيغليتز”: البرامج الاقتصادية الفاعلة هي تلك المبنية على فهم عميق للواقع المؤسسي والاجتماعي.
ب. تحديث البنية الداخلية: إصلاح الهياكل التنظيمية للأحزاب لتصبح أكثر شفافية وديمقراطية داخلياً، (كالاعتماد على الانتخابات المباشرة) و الحد من التدخل الخارجي عن الحزب قصد دعم فلان أو علان و محاربة الكولسة و الولاءات، والانفتاح على الكفاءات من خلال فرض معايير للحصول على تزكيات الاحزاب التي أصبحت مع الأسف، عبارة عن مأذونيات لتفريخ مرشحين في غالبية الأحيان، شاردين و مفتقرين للثقافة الحزبية و السياسية و التدبيرية، ومرونة في التكيف، مع تعزيز آليات تكوين المناضلين عوض تكوين المنتخبين و الذي يمثل هظرا زمنيا كبيرا و تكلفة تنموية باهظة الثمن وإعداد القيادات الشابة الواعدة، على غرار “أكاديميات القيادة” في أحزاب أوروبا الغربية مع التشديد على مبدأ التداول عوضا عن الخلود.
ت. الانفتاح على المجتمع: بناء جسور متينة مع المجتمع المدني، والنقابات، والجامعات، والمراكز البحثية، لاستقطاب الخبرات وإثراء البرامج وتجذيرها في الواقع. كما قال الأديب والسياسي الراحل “عبد الكريم غلاب”:
لا سياسة دون ثقافة، ولا ثقافة دون انفتاح على آلام وآمال الناس.
الاستعجال التاريخي:
رهان الشرعية والفعالية
هذا التجديد ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة استراتيجية وجودية:
. مواكبة النموذج التنموي:
يجب أن يكون التجديد السياسي حاضناً وموجهاً، وليس تابعاً أو معرقلًا، للنموذج التنموي الجديد، لضمان شرعيته الشعبية وفعاليته.
. إعادة الاعتبار للسياسة: لإعادة المعنى الحقيقي للعمل السياسي كخدمة عمومية وتضحية من أجل المصلحة العامة، واستعادة ثقة المواطن في المؤسسات الديمقراطية.
ويتجلى الإخلاص هنا في تجسيد قول الإمبراطور الروماني “ماركوس أوريليوس”: ما فائدة القول دون الفعل.
الإخلاص الحقيقي يظهر في العمل.
. خلق فضاءات المشاركة: لتوفير فضاءات حقيقية للتعبير والمشاركة في صنع القرار، تماشياً مع مقتضيات الديمقراطية الحديثة والتطلعات الدستورية.
و في الختام يجب أن ينخرط المغرب في تأسيس جديد… أو الغياب الأبدي.
المغرب، بكل إمكانياته البشرية والحضارية، يستحق فضاءً سياسياً متجدداً: فضاء تتقاطع فيه الكفاءة مع النزاهة، والرؤية مع الجرأة، والانتماء مع الانفتاح على المستقبل.
التجديد السياسي الجوهري لم يعد خياراً، بل هو شرط أساسي لشرعية أي مشروع مجتمعي طموح، وضمانة لا غنى عنها لتحقيق الاندماج الشعبي والاستقرار الدائم.
إنه دعوة لتأسيس جديد، يكون فيه الحزب مدرسة للديمقراطية، ومنبراً للأفكار، وقاطرة للتغيير المنشود، كما أراد له رواد الحركة الوطنية. على حد تعبير الزعيم التاريخي “علال الفاسي”: الحزب ليس جماعة مصالح، بل هو جماعة مبادئ وتضحيات في سبيل الأمة. وها هو المغرب اليوم، على أعتاب تحولاته الكبرى، في أمس الحاجة إلى أحزاب تستحضر هذه الروح، وتُجدد أدواتها، وتتحلى بالإخلاص للوطن والمواطن، لقيادة مسيرة البناء الديمقراطي بثبات ورؤية.
مستقبل الديمقراطية المغربية رهين بهذا التحول الجوهري في إطار قوانين حاضنة للمعقولية و كابحة للتسيب و الهمجية التدبيرية.
مواطن مغربي*.