الباكالوريا والـحُمَّــــى السياسية والنموذج الكورنيلـي (*)

الباكالوريا والـحُمَّــــى السياسية والنموذج الكورنيلـي (*)

- ‎فيفن و ثقافة
677
0

ترجمة د عبد الجليل بن محمد الأزدي

“في اليوم السابق لـمغادرتي الرباط، عثـرت ضمن وثائق ربائد (أرشيف) الـمعهد الـمولوي على الدفتـر الـمدرسـي للأميـر مولاي الـحسن، كما أشرت إلى ذلك سابقا.
ويتوقف هذا الدفتـر للأسف عند 12 نونبـر 1944. ومعدل النقط المحصل عليـها ما بين 10 أكتوبر و 12 نونبـر هو ثمانية وثلاثة أرباع في الدروس الشفوية، وسبعة في الفروض الكتابية، وثمانية ونصف في التـربية العامة: السلوك والعمل والتقدم. أما معدل الـمدرسة الداخلية، فيتجاوز قليلا تسعة.
في مواد اللغة العربية الشفوية، حصل الأميـر على معدل يفوق تسعة في القرآن وتفسيـر القرآن والشريعة الإسلامية وتاريخ الإسلام وتاريخ الـمغرب والنحو والصرف.
أما في الـمواد الكتابية، فلا توجد سوى نقطة النحو، الذي يبدو فيه التلميذ أضعف مما هو عليه في الواجب الشفوي، إذ حصل على ستة ونصف.
وفي البـرنامج الفرنسي والمواد المتنوعة، يقتـرب المعدل من ثمانية في الشفوي: شرح النصوص، الأدب، المحفوظات، الأنجليـزية، التاريخ، الرياضيات، الجمباز، السباحة.
أما في المواد الكتابية، فالمعدل أدنى: سبعة، وضمنـها أربعة وثلاثة أرباع في “الإنشاء بالفرنسية”، وهي أضعف نقطة ضمن مجموع النقط التـي حصل عليها الأميـر. هذه النقط على عشرة بطبيعة الحال. وإليكم تقرير السيد المديرالسيد دوڤال:
“تلميذ جيد على الدوام. ذكاء حاد وأحكام موثوقة. يتوفق بكيفة أفضل في التمارين الشفوية. أما في الإنشاء باللغة الفرنسية، فيحتاج إلـى بذل الـمزيد من الـجهد وأن يحرز مزيدا من التقدم”.

* الرسوب في الباكالوريا التجريبـية والنجاح في الامتحانات الرسمية

إنْ لم أعثـر على الدفتـر المدرسي الخاص بالـحقبة من نونبـر 1944 إلى يونيو 1947، وهي الـحقبة التـي اجتاز فيـها الأميـر الشطر الأول من امتحانات الباكالوريا، فقد عثـرت على وثيقة مثيـرة جدا، تلقي ساطعَ الضوء على حياة الـمعهد المولوي، وعلى العلاقات القائمة بيـن مدير الـمعهد والسلطان وابنه البكر. إنها رسالة وجهها السيد موريس دوڤال بتاريخ 17 مارس 1947 إلى جلالة سلطان المغرب. وإليكُم الـجوهري منـها:
“مولاي
لي عظيم الشرف أن أطلعكم على نتائج اختبارات الباكالوريا التجريبية. فلكي يتم قبول التلميذ (أي قبوله لاجتياز الاختبار الشفوي) يجب أن يحصل على 45 نقطة. والحال أن الأمـيـر لم يحصل إلا على أربعيـن نقطة.
“وقد سبَّبَ لي رسوب الأميـر كثيـرا من الـحزن وبعض الدهشة. فاعتبارا للاهتمام الخاص الذي أبان عنه جلالتكم والمشهود به من قبل جميع الأساتذة، كنت أتوقع نتيجة متوسطة على الأقل، إن لم تكن متألقة. ولهذا أحسست بخيبة مؤلمة وعميقة.
“لن نتحدث عن العلوم التـي كان الأميـر فيها ضعيفا على الدوام، والتـي مهما بلغت جهوده فيها، لا يمكنه الـحصول فيـهـا على نقطة مُرْضِية.
“غيـر أن في الإمكان الحديث عن: أولا. العربية: فليتذكر جلالتكم عدد الحصص المخصصة للمواد الإسلامية، منذ إنشاء المعهد المولوي، وخلال أعوام عديدة؛ في حيـن أن سيدي تَمَّ إِعدادُه بقوة من لدن أستاذ ذي قيمة استثنائية، من حجم الفقيد أقصبـي. ولم تكن صيغة الباكالوريا التجريبية صعبة. حصل الأميـر ثمانية على عشرة؛ هذا جيد. ولو استحق تسعة، أي 20/18، لصار بإمكانه أن يحصل في هذه المادة على ثمانية نقط إضافية بدل ستة. وأعتقد أن التقدم لا يتناسب مع التضحيات المبذولة في دراسة اللغة العربية، على مستوى استعمالات الزمن.
ثانيا. في اللغة الأنجليـزية: هنا أيضا لم تكن صيغة الاختبار عسيـرة. والحال أن تلامذتنا، مثل جميع المغاربة، موهوبون في اللغات وحَباهُمُ الله بذاكرة جيدة، وقد شرعوا في دراسة الأنجليـزية ابتداء من أكتوبـر 1943. وهذا يعنـي ثلاثة أعوام ونصف من الدراسة داخل فصل من ثمانية أو تسعة تلاميذ. وأنا شديد الأسف إذ أُلاحظ أن النتائج غيـر مُرْضِيَةٍ هنا كذلك.
ثالثا. في الفرنسية: غالبا ما تحدثت مع جلالتكم عن مخاوفي وقلقـي في هذا الشأن؛ إذ من المؤكد وجود تباين صارخ وحاد وغيـر عادي بيـن القدرات التـي أبان عنـهـا الأميـر في الشفوي (وهو ما تشهد به جميع الـمراقبات العامة) والنقص في الكتابي. إنها مسألة مزاج من جهة. وهي من جهة أخرى، وفي قسم كبير منها، أثـر من آثار تكوين أولي ترتبت عنه مجموعة من العادات التـي وقفنا إزاءها عاجزين.
“يدل ذلك علـى أننـي – مع ذلك – فاجأتنـي بكيفية غيـر سارة نقطة أربعة ونصف التـي أحرزها الأميـر، في حين أن الـموضوع الذي اختاره من بين الموضوعات الثلاثة الـمقترحة، كان أليفا جدا بالنسبة له؛ هذا علاوة على أنه استغرق في كتابته الساعات الثلاث القانونية.
“والآن، يمكننـي أن أؤكد لجلالتكم، وبكل إخلاص، أنْ لا مجال لليأس من امتحانات يونيو القادم؛ فأمامنا ثلاثة أشهر سيشتغل الأميـر خلالها بمزيد من العزم والإقدام، بعدما فوجـئ بقسوة وجُرِحَ كبـرياؤُه نتيجة خيبته اليوم.
“لكن يلزَمُ ذلك شرط واحد، ألا وهو أن يَدْعَمَهُ ويًحَفِّزَهُ ويَحْتَضِنَهُ جميعُ أساتذته، وقبلهم جلالتُكم طبعا. وقد تنبهت بالأمس إلى السلطة العليا والتقدير السامي الذي تحظى به جلالتكم في منظور الأميـر. ولاحظتُ بعمق كيف أن سيدي يُعِزُّكم يا مولاي. ويخشـى غضبكم أقل مما يهاب حزنكم الذي يفطِّرُ قلبَهُ. واسمحوا لي يا مولاي أن أحدثكم بصراحتـي المعهودة، وهو ما يشفع لي طيلة هذه الأعوام الستة التـي قضَّيْتُـهـا في خدمتكم، وفي خدمة أسرتكم وأبناءكم الأعـزاء. فمن واجب الأمراء أن يعرفوا أنك شديد. لكن من واجبهم أن يشعروا كذلك بدفء حنانكم الأبوي الغامر؛ إذ على امتداد خمسة وثلاثيـن عاما من العمل معلما لصِبْيَة (ذكور وإناث) في عمر الأميـر، اكتسبت خبـرة عظيمة في هذه الأمور التـربوية. وفوق ذلك، لي أنا أيضا ابنٌ يَشهَدُ مسارُهُ على ذلك.
والحال أن سيدي يعيش باستمرار تحت تاثيـر أصدقاء أو أشخاص يفهمونه بطريقتهم الخاصة. ولا أحد يمكنه أن يقوم مقام التأثيـر القار والعميق الذي يمكن الأب والأم أن يمارسانه على أطفالهما. وكلَّما بلغنـي نبأ خروجكم مع ابنكم في جولة حميمية، غمرتنـي السعادة، وتمنيت أن يحدث ذلك مرارا. وأعتقد أن عمل سيدي، خلال هذه الشهور الثلاثة، سيكون مثمرا أكثـر، وسيكون التقدم أسرع وأكثـر أمانا، إن شعُرَ أنه يتلقى دعمكم وتشجيكم ونُصحَكُم، في إطار علاقات متواترة جدا، مِلْئُــهـا الثقة والعطف الـمتبادل بين الأب وابنه.
“ومن جهتـي، لن يفوتنـي أن أسهر باهتمام غيـر مسبوق على الأميـر وعلى المسار الطيب لدراساته.
“وتقبلوا مولاي تحية مشاعر الاحتـرام العميق والإخلاص الشامل”.
(السيد دوڤال)
يوم 17 مارس 1947، أي ثلاثة أسابيع قبل الرحلة صوب طنجة، كان السلطان منشغلا بالمسائل السياسية أكثـر من انشغاله بمراقبة واجبات ابنه البكر.
ففي هذه الفتـرة، وبتعاون مع الزعماء الوطنييـن الـمغاربة، وباتفاق مع الـمقيم العام إريك لابون، كان سيدي محمد بن يوسف يُهَـيِّءُ التظاهرة الوطنية العظمـى التـي سيطالب فيـها باسقلال بلاده ووحدتـها.
ومَنْ يعرف ذهنية السلطان الدقيقة والـحكيمة والدينية، وحساسيته الـمفرطة، سيتأكد أنه خلال الأشهر السابقة لتظاهرة 10 أبريل، خصَّصَ ساعات وأياما وليالي طويلة للتفكيـر واستشارة مستشاريه، وللتعبُّد ووَزْنِ كل جملة من جمل خطابه.
ويوم 17 مارس، حينما بعث له السيد دوڤال رسالته الطويلة حول الباكالوريا التجريبية للأميـر مولاي الـحسن، كان قد أَطْلَعَ ابنه البكر على مشروعه العظيم. بل إنه يعوِّلُ عليه في التأثيـر على الشبيبة الـمغربية، و”الكشفية الـحسنية” بشكل خاص.
لقد عهِدَ إليه، قبل أربعة أعوام خَـلَتْ، بأول “سِرٍّ” من أسرار الدولة لما اصطحبه معه بكيفية سرية للقاء روزڤلت في آنفا، قبل اللقاء الرسمـي.
ومن الأكيد أنه أَطْلَعَهُ، في مارس 1947، على الـخطاب التاريخـي الذي سيلقيه في طنجة. وقد استلهمه الأميـر في تحضيـر الكلمات التـي سيوجهها للكشافة ولتلاميذ العديد من الـمدارس.
وقد كان طلق اللسان لدرجة أن السلطان لم يطلب منه كتابة الكلمات التـي سيُلقيها؛ إذ سيكون الأميـر أكثـر تألقا وإقناعا حين يُتـرَكُ على سجيته ليـرتجل كلماته.
أما بخصوص الأميـرة للا عائشة، فأعتقد أن خُطَبَـها تَمَّ تحضيـرُها بعناية صحبة السي المعمري، وربما بصحبة محمد الفاسي، ومن الأكيد بصحبة السلطان نفسه، الذي سيَـزِنُ كل كلمة من الكلمات التـي ستنطقها ابنته، التـي يعتـز بها أيما اعتـزاز.


ومثلما أقر مبعوث جريدة لوموند، فالاختلافات الدقيقة بيـن النصوص، العربي والفرنسـي والأنجليـزي، تكشف تدخل عقل حَذِر، يحسب إلـى أي مدى يجب الذهاب داخل كل لغة لتحقيق أفضل أثر على الـمتلقي الـمُفتَـرَض.
وإذا كان الأميـر مولاي الـحسن مُستاءً، في منتصف مارس، من الكَمَدِ الذي ستسببه لوالده النتائج غيـر الـمُرْضية لاختباراته في الباكالوريا التجريبية، فلأنه كان على علم بالـمشاكل الـخطيـرة التـي تُؤَرِّقُ السلطان. كان الأميـر، فـي حقبة التأمل هذه، والتحضيـر للمعركة، آسفا أن يثقل أباه بهَـمٍّ إضافِـيٍّ، وأن يُزْعِجَ، بهموم عائلية، ذهنا متوترا داخل مجهود دينـي وأخلاقي وسياسـي.
وفي خاتمة رسالة السيد دوڤال إشارة إلى أن الأميـر مولاي الـحسن “يعيش باستمرار تحت تاثيـر أصدقاء أو أشخاص يفهمونه بطريقتـهم الـخاصة”. ويتعلق الأمر ببعض أصدقاء الأميـر الذين لا يأخذون دراساتهم مأخذ الـجِدِّ، وكذا ببعض الراشدين الذين يتوهمون أنهم يقدمون الدروس لابن السلطان بمجاملته والزَجِّ به نحو اللهو. لذلك تم اتخاذ بعض الاحتياطات الصارمة، وفي شهر يونيو، اجتاز التلميذ مولاي الـحسن، بكيفية عادية، الشطر الأول من امتحانات الباكالوريا. وفي العام الموالي، نجح بتألق في الشطر الثاني، حسب ما أخبـرني به أساتذته محمد الفاسـي وباحنينـي والسيد فرانسوا روڤيل.
لم أعثـر على وثائق امتحانات الباكالوريا، وذلك عائد علـى الأرجح إلى أنها أُرسلت إلى بوردو التـي يأتي منـها الـمُمْتَحِنون الـمُكلَّفون بمنح الدبلوم الفرنسـي لـمن يستحق من تلاميذ الـمعهد الـمولوي.
ومن الصدف السعيدة أننـي عثـرت، وأنا أُقَلِّبُ وثائق الـمعهد الـمولوي، على الـمقالة الفرنسية ذات الصلة بــ “الاختبار الأبيض”، التـي تحدث عنـهـا السيد دوڤال مُنَبِّـهـاً على أن الأميـر لم يحصل فيهـا إلا على علامة أربعة ونصف على عشرة (10/4.5). ونص هذه الـمقالة جدير بالدراسة مِنْ كَثَبٍ.

* الأميـر مولاي الـحسن ونفسية أبطال كورناي

الـمقالة الفرنسية التـي نال الأميـر بسببـها نقطة أقل من الـمعدل الـمطلوب، حرَّرها بيده في خط دقيق ومقروء ومستقيم، فوق ثلاث صفحات ونصف من الـحـجم الكبيـر. طُبِعَت على رأس كل صفحة: قصر جلالة الـملك – المعهد الـمولوي – الرباط.
وفي الأعلى، على اليسار، كتب التلميذ اسمه: الـحسن بن محمد؛ وكتب على اليميـن التاريخ: 12 مارس 1947. وعوض أن يذكرَ الأميـرُ الموضوعَ الذي سيتناوله، أشار: الاختيار: الـموضوع الأول.
وحيـن قراءة مقالته، نتبيـن أن الـموضوع الذي اختاره إما أن يكون: “النموذج الكورنيلي” أو “نفسية أبطال كورناي” أو أمرا من هذا القبيل.
يبدأ التلميذ بملاحظة مقتضاها أن شخصيات كورناي تمَّ اقتـراحهـا دوما، وعلـى امتداد ثلاثة قرون، بصفتـهـا نموذجا ومثالا يجب أن يقتدي به الشباب. فلماذا لم تُقتَـرح عليــهم شــخصيات أبطال إسـخيلوس ويوروبيدس وسوفوكليس، أو على الأقل أبطال راسيـن؟ هذا هو السؤال العميق الذي لا تمكن الإجابة عنه إلا بعد الفحص العميق لنفسية أبطال كورناي؛ بل إن كورناي نفسُه ميَّـز شـخصياته تمييـزا تاما: رجال أعمال بأرواح استثنائية، تصنع مصائرهم ثروات خارج الـمألوف: “وبما أنه يرى فينا أرواحا استثنائية، وغيـر عادية، فإنه يمنحنا ثروات”. (مسرحية هوراس).
وإذا كان رودريق قد قتل والدَ خطيبَتِه، وإذا كان هوراس قد قتل شقيقته وضحـى بكورناي في روما… وإذا كان أوغست يكتفي بمسامحة الـمتآمرين ويغذق عليـهم البـركات، واخيـرا إذا كان پوليوكت يتخلـى عن السعادة الدنيوية والـمادية للظفر بسعادة أخرى أكثـر جمالا وديمومة، فلأن جميع هذه الشخصيات كان مدفوعا بحافز يبدو له كافيا لـحسم مسائل حساسة جدا. وهذا الـحافز هو النموذج الكورنيلـي.
سجل المصحح على هامش هذه الصفحة الـملاحظة الآتية: “يجب أولا وقبل كل شيء تعريف هذا النموذج”. والواقع أن الأميـر الشاب، عوض أن يشتغل بطريقة منهجية، ويحلل مفهوم النموذج الكورنيلي، ألقـى في السلة سلسلة من الأحكام المفيدة التـي تظهر فيـها حساسيته، مثل رسام وضع فوق قماش الرسم بُقَعاً من الألوان دون أن ينشغل كثيـرا بالرسم.
وأولئك الذين ينعتون نموذج كورناي بـ”البـربـرية”، ولا يرون في تراجيدياته سوى الـمُحتَمَل والـمُشابِه للواقع، يجيبـهم التلميذ بأن هذه الانتقادات “لم تتعرف على جميع الـمشاعر النبيلة والـجميلة التـي تحرك الإنسان”، ويضيف – بطريقة خرقاء ما ترتب عنه في هامش الصفحة ملاحظة: “غيـر صحيح” ، “شانـئ”- “يجب ألا ننسـى، برغم ما يقال، أن الإنسان يتوفر على شـحنات من القوة والكرامة والشهامة… تبـرر اختيار الآلهة له لتجعل منه ما هو عليه، أي كائنا عاقلا. (ملاحظة المصحح: “صعب الاحتمال”) “إن مشاعر الكرامة والوطنية وحب الوالدين والكَلَفُ بالله، تلك ينابيع تراجيديات كورناي”.
وتحدث بعد ذلك عن علاقة الـحب بيـن شيمان ورودريق “اللذان انفصلا بسبب شـجار قضى على سعادتهما”، وعن پوليوكت”الذي يحب زوجتَه، لكنه يعبد الله”. وبعد أن بيَّـنَ أن بطل كورناي “لا يتخذ موقفا واضـحا منذ المشهد الأول، لدرجة نراه متـرددا ومتـراجعا وعلى أهبة الاستسلام”: طالـما اختيار طريق الكـرامة يقتضي تجاوز جميع الـمشاعر الأخرى، مشاعر الشغف والـحب والقرابة”، كتب مولاي الـحسن هذه الـجملة الفضولية التـي وضع الـمصحح إزاءها علامة استفهام:
“إن الساعات الأربعة والعشرين الـتـي نراها من حياة البطل تشبه الـمسرح الشاسع والوعر الذي يجب أن تظهر فيه الإرادة الإنسانية”.
ومن الطبيعي أن كلمة “الوعر” مذهلة، غيـر أنها موحية؛ إذ تكشف جيدا أن بطل كورناي يتحرك فوق أرض صعبة، يمكن أن يتعثـر فيـها؛ إذ الشغف والـحب فخٌّ على طريق الكرامة. وهنا يكتب مولاي الـحسن جملة رائعة في شأن الدور الذي ينـهض به الـحب في تراجيديات كورناي:
“ليس ذاك الـحب المحموم الذي نجده عند راسيـن. وليس ذاك الشغف الذي يأتي دون أن نعرف كيف ولـماذا؟؛ لا، إنه الشغف الوازن والـمُعتبَـر القائم علـى الاحتـرام الـمتبادل بيـن العاشقَيـن؛ فالاحتـرام مفتاح جميع الأمور…”. (وضع الـمصحـح علامة AB أي مستحسن).
وإثر ذلك، أتت في الهامش ملاحظة نقدية من المصـحح في كلمة واحدة: “التسلسل”؛ إذ قبل تحليل شخصية البطل في مسرحية پوليوكت، كتب التلميذ:
“ولكن مِنْ أَنَّـــــى لهذا البطل ألا يكون مُسْتَلْطَفاً أحيانا: كما في مسرحية هوراس على سبيل الـمثال؟ يعود ذلك لوجود أجزاء في النموذج الكورنيلي عفا عليـها الزمن: صفعٌ، جرائمٌ، قتلٌ، وحشيةٌ”.
صحيح أن بيـن الفقرتيـن السابقة واللاحقة تبدو هذه الملاحظة أشبه باعتـراض أو ارتباك في التسلسل، أي مثل فكرة لم يتم تطويرها بما فيه الكفاية. لكن إن لم يكن هناك رابط عقلاني بيـن الفقرات، فبينـها ترابط عاطفي، أي ترابط للأفكار مبنـي، داخل اللاوعي، على أن النقيضَ يطلُب نقيضَهُ أكثـر مما يطلب النظيـرُ مثيلَهُ ونظيـرَهُ.
وحيـن انبـرى التلميذ لتحليل النموذج الكورنيلـي في تَمَيُّـزِه وسُمُوِّهِ، استشعر الـحاجة إلى تحديد، وبلمسة سريعة، أحدِ الـملامح القاسية فـي شـخصية واحد من أبطال كورناي. وصَنيعُهُ في هذا مثل رسام يعمد إلى وضع تخطيط بألوان داكنة فوق قماشته، قبل أن يُلْقي فوقها الألوان الوضيئة. وإلى جانب هذا، من اللافت أن أميـرا مغربيا شابا يُقَدِّرُ أن الأبطال الذين يتوهمون الدفاع عن شرفهم بالصفع والقتلِ، متوحشون وغيـر جديرين بالاستلطاف والتعاطف؛ ففي أربعة أسطر فقط، بيَّـنَ مدى انحطاط نموذج الـمُسْكُتيـر وهواة القتل ورجال العصابات.
بعد هذه الـملاحظة، ودون “حُسْنِ تَخَلُّصٍ”، مثلما أشار الـمصحح لذلك، كتب الأميـر مولاي الـحسن صفحة جديرة باستعادتها كاملة:
“إن پوليوكت في نظري، هو نموذج البطل الكورنيلي الذي يجسد بكفية أفضل مقصد كورناي.
“پوليوكت شاب، غنـي، محتـرم، متـزوج بفتاة يحبـها حُبّا جَمّا. ومع ذلك، يحمل في قلبه حبا أقوى من حبه لزوجته. إنه حب الله. سيعتنق الـمسيحية، وسيذهب إلى المعبد ليُحطِّم الأصنام وآنية الشعائر، ثم يخطب في الناس متهجما ومحرضا. وفورا، يتم الإمساك به واقتياده إلى حفل تعذيب صديقه نِيارك، وهو الـحفل الذي يتم إحضاره له قصدَ إعادته إلى الوثنية. يبذل فيليكس قصارى جهده ليجعل پوليوكت يتـراجع عن قراره؛ فيـرسل ابنته إلى السجن آمِلاً أن حبّـَهـا سيعيد پوليوكت إلى رُشده. غيـر أن هذا الـجهد يذهب سُدى: إذ قاوم پوليوكت بمزيد من الشدة. والرفض الذي واجه به زوجته لا يعنـي أنه لا يحبـها، وإنما الأمر أبعد من ذلك؛ إذ يقتـرح عليـها أن تذهبَ معه إلى السماء وتتذوقَ سلام النعيم، في أحضان الله. إنه يريدها أن ترتقي السماء، يريدها مسيحية، مؤمنة، تحب الله كما تحبه هو. “فهناك السعادة، حسب قوله، وهناك النعيم”. لم يحب كورياتي كاميلا على هذا النحو، ولم يعشق رودريق شيمان بهذه الشاكلة، ولم يحب سينا إميلي بالشغف نفسه. وعلاوة على ذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا ما سيفقده پوليوكت وهو يتمسك بعقيدته. سيفقد لا محالة السلطة والشباب والثـروة والـحب والـحياة. لكن ما الفائدة الـمُضاعَفة التـي سيجنيها مقابل ذلك ! لقد راهن بكل ما يملك في سبيل كل شـيء !أو بالأحرى، ضحَّـى بالـجزء في سبيل الكُلّ: إذ ما قيمة الـمتعة الدنيوية مقارنة مع سكينة العالم الأخروي غيـر القابلة للوصف.
“لكن يجب ألا يذهب بنا الظن إلى أن پوليوكت لا قلب له، ولا يخشـى نقاط الضعف الإنسانية؛ فعندما كان ينتظر قدوم زوجته إلى السـجن، لم يتوقف عن التضرع إلى الله كي يمنحه القوة لـمقاومة عيون پوليـن. والأخيـرة تتفهم أن زوجها جدير بالـحب اعتبارا لشـجاعته ونكرانه لذاته. وهي تُقدِّره لـما يحمله في قلبه من مشاعر نبيلة. ولهذا تحبه وتبلُغُ من حبـها له مَبْلَغَ مرافقته إلى التعذيب.
“إن پوليوكت هو، في تقديري، مَنْ يُمَثِّلُ بكيفية أفضل الـمشاعر الكورنيلية النبيلة. ولا يوجد فيه ما هو شائن؛ إنه يحب زوجته، لكنه يحب الله أكثـر”.
وضمن الملاحظات التـي سجلها المصحح الصارم أعلى المقالة، اعتبـر أن الأفكار التـي عبَّـر عنـهـا الأميـر مولاي الـحسن ينقصها الوضوح، وأنه لم يتحدث عن تأثيـرات ديكارت، وعن معرفة مبدإ الـخيـر، وعن شفافية البطل الكورنيلي، وعن قوة الإرادة. وقد استطاع فعلا “الإدلاء ببعض الـملاحظات الوجيـهة هنا وهناك”و”بذل بعض الـمجهود في تحليل روح پوليوكت”، غيـر أن أسلوبَه في هذه الـمقالة – حسب ملاحظات المصحح- رديء ومُطنب، وانتقالاته مصطنعة أو شديدة التكلُّف.
وهذه الملاحظات صحيحة جزئيا، فيما يهم ثُلُثـي المقالة. وليست صحيحة تماما، من وجهة نظري، بالنسبة للصفحة التـي حلل فيـها شـخصية پوليوكت. وباستثناء بعض الهفوات، فالأسلوب واضح ومتوتر. وفوق كل شيء، نحس أن الأميـر الشاب البالغ ثمانية عشر ربيعا اهتـز عند قراءته لرائعة كورناي. ذلك أن الإحساس الـحيوي الشديد بجمال عمل درامي، يقتضي امتلاك نُبْلٍ في القلب يدل على طبيعة النخبة التـي نشأت في ظلال تربية كريمة.
والمقالة التي أتينا على تحليلها، والتـي حصل الأميـر الشاب بسببـهـا علـى نقطة سيئة من قبيل أربعة ونصف على عشرة (10/4.5)، تبدو مثل شهادة أنيقة عن التـربية الحسنة التـي يقدمها في الـمعهد الـمولوي أساتذةٌ ذوو كفاءة أخلاقية وقيمة ثقافية من عيار السيد أحمد باحنينـي والسيد محمد الفاسي والسيد فرانسوا روڤيل والسيد موريس دوڤال.
وعلاوة على جميع هذه المؤثرات الـمتحكم فيـها من أعلى، هناك العناية الـمفرطة والـعطوفة التـي يحيطه بها السلطان سيدي محمد؛ إذ بإشراكه ابنَهُ في مشاغِلِه الدينية والسياسية، كان هو الآخر يقدم له دروسا فـي سُمُوِّ الروح. وهذا ما سيستفيد منه تاريخ الـمغرب وأفريقيا”.

 

(*) يشكل هذا المنشور الفصل الحادي عشر من كتاب جورج فوشيه: في ظلال أرز إفران – محادثات حرة مع الحسن الثاني ماك المغرب

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

حفل بالمعهد الملكي للشرطة: حموشي يوشح 353 شرطية وشرطياً بأوسمة سامية تقديراً لتفانيهم في خدمة الوطن

هيئة التحرير احتضن المعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة، يومه