بقلم : عبدالقادر العفسي
تمهيد ضروري:
العرائش ليست بوابة نحو الأمل، بل جدار يعلو بخوفٍ مركّب، يتشابك فيه سماسرة العقار ومهندسو الظل، وتتقاطع فيه خيوط المافيا العابرة للحدود مع سوء التقدير المحلي، إنها ليست فقط منطقة مهمّشة، بل مرآة مكسورة تعكس وجه الدولة حين تغيب الرقابة ويُباع القرار ، ليست مدينة العرائش في جوهرها اليوم، سوى استعارة مجالية للفشل السياسي في توزيع السلطة والكرامة ، إنها لا تُجذب بل تُستدرَج، لا تُنمَّى بل تُستغَل، وهي ليست مدينة كما ينبغي للمدينة أن تكون في الحقل الرمزي للدولة الحديثة، بل هي أفق مهترئ يُعاد إنتاجه بمنطق الحيازة والنهب، العرائش اليوم، ليست سوى مدينة خائفة، لا من القادم فقط، بل من ما يُدبَّر في الخفاء باسمها شاهد من شواهد جغرافيا خرساء تُرسم بأدوات الريع، وتُملأ بكثافة مادية لا تنتمي إلى منطق العيش، بل إلى منطق التملك، نعم : ليست مدينة العرائش، بما تحمله من رمزية تاريخية ومجالية، سوى استعارة مكانية لانكسار المشروع الوطني عندما يُبتلع داخل منطق المصالح الضيقة، إننا لا نتحدث عن مجرد مدينة أو إقليم، بل عن فضاء سوسيولوجي تم الاستيلاء عليه من طرف شبكات غير مرئية، تُعيد إنتاج السلطة عبر الحيازة الرمزية للمجال ،فالعرائش، كما وزّان، ليستا منطقتي جذب للاستثمار أو التنمية، بل مناطق نفوذ عصابات ، حيث تصبح الأرض سلعة، والوثيقة الرسمية أداة مضاربة، والخريطة تعبيراً عن صراع طبقي مقنّع . انتهى.
يبدو أن السيدة الوزيرة فاطمة الزهراء وزيرة إعداد التراب الوطني و التعمير و الإسكان و سياسية المدينة بالمملكة المغربية قد عبّرت داخل قبة البرلمان يوم 28 أبريل 2025 عن شكوك مشروعة حول وثيقة تصميم التهيئة الخاص بمدينة وزان، فإن ما لم يُقل في الخطاب البرلماني أكثر تعبيراً من المنطوق نفسه لا تعبّر عن رؤية مستقبلية بقدر ما تفصح عن هذيان توسعي يخدم زمرة معينة من “مقاولي التخطيط” في دولة لم تعد تميّز بين المسطرة القانونية ومسطرة الامتيازات، وكما علّق “بورديو”، فإن السلطة الرمزية لا تعمل بالضرورة عبر القهر، بل عبر فرض أنماط الإدراك نفسها، وقد نجح هؤلاء في تحويل التوسع العمراني إلى قدر لا يُرد، رغم لا معقوليته التقنية والاقتصادية …
كيف لا ! وحسب السيدة الوزيرة فإن الوثيقة كانت تحمل فتح المجال العقاري بمساحة تتجاوز ثلاثة أضعاف مساحة “وزان” الحالية ! إن السيدة الوزيرة و هي تشير في معرض إيجاباتها عن مآل الوثيقة ، أكدت بما لا يدع للشك على أن الجهات العمومية المكلفة بإعداد الوثيقة أو الإشراف عليها قد جانبت الصواب و دخلت في آفاق أخرى تقترب من ضرورة المسألة و تحمل المسؤولية، و كما عرفت و ثيقة ” وزان” هذا التمدد الذي لا يخدم إلا لوبي معين و بطبيعة الحال يفتح المقابل و يترك الجهات المعنية أمام مسؤولية تقديم ايجابات و توضيحات للرأي و للسيدة الوزيرة .
و بما أن أهم ما يربط “وزان” ب” العرائش ” أنهما ترتبطان بنفس البنية البيروقراطية في إطار التنظيم الإداري ألا وهي الجهة الإدارية المكلفة بالتعمير للإقليمين أي ” وزان” و “العرائش”فإنه لشرف لنا أن ندعو السيدة الوزيرة إلى إلقاء نظرة على تصميم التهيئة الجديد لمدينة العرائش لاكتشاف أوجه التطابق و أوجه التوأمة و أوجه التشابه و السيامية بل قد تكون النموذج الأكمل لما يمكن أن نسميه بـ التخطيط الماكر لخدمة لوبي العقار ، هذا التصميم الذي لا زال في ضوء البحث السري ! رغم أنه لا سرية بقيت لهذا التصميم التي يتم تداول في شأنه بين جهابدة العقار بالمدينة ، و كما في علم السيدة الوزيرة و أجهزتها المركزية فربما تم خرق البحث السري للوثقية! من طرف قراصنة الفساد الذين عتو و كونوا ثروات كبيرة من بيع المعلومة ! ربما أن مشروع تصميم التهيئة وصل إلى دهاقنة العقار قبل اللجنة المكلفة بذلك ربما ربما …و هو ما وصل إلى علم الجهات المركزية المسؤولة كما أنه و من خلال مصادر مركزية بالوزارة المعنية فإنما يقع بمدينة العرائش قد أزكم الأنوف و جعل الجهات المكلفة بالإعداد الترابي ربما ! تتحين قطف الرؤوس ، لأن الحديث عن تسريبات التصميم وبيعه في السوق السوداء قبل صدوره الرسمي، هو ليس فقط مؤشر على هشاشة المؤسسات، بل على اختراق الدولة من الداخل ، فحين يصل مشروع التهيئة إلى سماسرة العقار قبل أن يصل إلى اللجنة المكلفة به، نكون أمام حالة من «التآمر على المجال» تقتضي المساءلة القضائية، لا فقط الإداري .
لكننا ندعو إلى المتابعة المالية و التحقق من الثروات العاملين و المرتبطين بهذا القطاع في أي إدارة كانوا ، لأنه لا نظن بأن مثل هذه المسؤوليات تُمنح لبعض المختلين عقليا و الغير المتزنين سلوكيا و الذين يشتغلون بمنطق الجزارة يفصلون كما يشاؤن ، و لعل رفض تمديد المسؤول الكبير بأحد القطاعات المرتبطة بالتعمير إشارة كبيرة على عمق الفساد ، كما أن تعين مسؤولة بالنيابة قد أبان عن تحفض كبير في تحمل وزر المخالفات و الجرائم المرتكبة في إعداد التراب و التعمير ، بل إن المسؤولة بالنيابة قد سجلت تحفظها المطلق على كل وثائق تسلم المهام من المسؤول السابق؟؟ و هذا بحضور مفتشة مركزية من القطاع ، و هو ما يؤشر إلى أن السيدة الوزيرة تعرف ملف العرائش و وزان معرفة دقيقة ؟
بالمحصلة: ما قيل عن وزان لا ينفصل عن العرائش، فالجهاز الإداري الذي يشرف على التعمير واحد، والتشابه بين الحالتين ليس صدفة بنيوية، بل تعبير عن تماثل في طبيعة النهب وآلياته، لذلك، فالدولة و الوزيرة خاصة مطالبة إلى إلقاء نظرة متعمقة على تصميم التهيئة الجديد لمدينة العرائش، ذاك الذي لا يزال – شكلياً – في طور “البحث السري”، لكنه في الواقع قد تم تسريبه، تحليله، التفاوض بشأنه بين أباطرة العقار، وربما “تمت تسويقه” قبل أن تضع اللجنة التقنية يدها عليه، هكذا تشتغل شبكات الفساد: لا تعلن عن نفسها، بل تستثمر في الظلال، وتبيع الوثيقة قبل أن تخرج للعلن، هنا تُصبح المعلومة سلعة، والسرية مجرد غطاء هش لاقتصاد غير مشروع، لقد تسرب المشروع، على ما يبدو، إلى دهاقنة المجال قبل الجهات المعنية، وهو ما يعني أن عملية تنظيم المجال أصبحت فعلياً تحت وصاية من يمتلك مفاتيح التوقيع، لا من يمتلك مشروعية القرار ، كل هذا يجعلنا نسأل: من هؤلاء الذين يفصلون المجال كما يهوون؟ من أولئك الذين اشتغلوا بمنطق الجزارة، لا التخطيط؟ من هؤلاء الذين راكموا ثروات ضخمة من بيع المعلومة، وتكريس النفوذ؟ وهل من الصدفة أن مسؤولاً كبيراً في التعمير بالعرائش قد تم رفض تمديد مهمته، ليُعيَّن بعده مسؤول بالنيابة رفض حتى تسلّم الوثائق بشكل رسمي، بل عبر عن تحفظه الصريح أمام مفتشة مركزية للوزارة؟ إذا لم يكن هذا مؤشراً على اهتزاز الشرعية الداخلية للمؤسسة، فما عساه يكون؟
و عطفا على ما سبق و تنويرا لمن يعيشون في ظلمات الفساد أدعوهم إلى الاضطلاع على مراسلة و صرخة ولي جهة “الدارالبيضاء” السيد “المهدية” إلى عمال “الدار البيضاء” حول ضرورة توقيف الربط العشوائي و الضرب بيد من حديد على عملية ربط التجزيئات بالشبكات الخدمية “الواد الحار” و “الماء و الكهرباء ” بطرق ملتوية و غير قانونية دون أداء المستحقات و دون التجهيزات الضرورية كما تقتضيه كنانيش التحملات ، و هو الأمر الذي سيقوض أسس شبكة الفساد الكبيرة التي تستفيد من هذه التجاوزات ، حيث يمكن أن تُقرأ كصرخة من داخل جسد الدولة نفسها، صرخة تقول إن الفساد لم يعد خطأ فردياً، بل بنية ذات منطق خاص، يُعيد إنتاج نفسه بالتواطؤ، بالسكوت، وأحياناً بالشرعية التقنية ، ومن هنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه في سياق العرائش التي تعد جزءاً من هذه البنية الممتدة : هل تخضع التجزيئات الجديدة ب”العرائش” لهذه الإجراءات؟ هو مجرد سؤال -شجرة- قد يكشف عن غابة من الاختلالات ؟ و لمزيد من التدقيق فهل كل التجزيئات الموجزة حاليا سواء بالعرائش أو وزان قد مرت بالمنصة الوطنية الاليكترونية المخصصة لهذا الغرض ؟ أم أن هذه المنصة نفسها تحولت إلى قناع رقمي يُشرعن التجاوز بدل أن يكشفه؟
ندعو السلطات الشريفة إلى التحلي بالشجاعة لبث الثقة للرأي العام ، فلا يمكن لبلادنا أن تسير بسرعتين متضادتين: سرعة ملكية تتجه إلى الإنجاز والتحديث والتعمير الحقيقي، وسرعة ريعية انتهازية تبحث عن كل ثغرة ممكنة لاقتناص الربح، ولو كان على حساب الحق العام لا يرى في كل انجاز إلا مصدر للدخل و مراكمة الثروة و تهريبها ، أحدهما يعمل بمنطق الأمة، والآخر يشتغل بمنطق القبيلة المالية، الأول يرى في المخطط العمراني أداة لتنمية الإنسان، والثاني يراه خريطة للاغتناء لا يعنيهم حاضر و مستقبل البلاد بل كل همهم هو اللقط و انتهاز الفرص و اختراق الدولة و موظفيها و استمالتهم بالأعطيات و الهدايا حتى يسهل عليهم سرقة القرار ، ولعلّ الخطر الأكبر أن هذين المنطقين يشتغلان داخل نفس الدولة، تحت نفس القوانين، وعلى نفس الأوراق الرسمية ؟.
المغرب يسير بدون وجود موانع للتصادم ! لقد بلغ الممكن أقصاه ، ولم يعد ممكناً السكوت، لم تعد المسألة مسألة تحقيق إداري بل مساءلة فلسفية عن معنى الدولة، عن وظيفة الوزارة، عن حدود الشرعية، لأن المجال ليس تراباً فقط، بل بُعداً وجودياً، وهو كما قال باشلار، “بيت الكائن”، ومن يفسد بيت الإنسان لا يمكن إلا أن يكون عدواً لوجوده نفسه، التهيئة ليست مجرد تصميم، بل فعل رمزي عميق، تحدد من خلاله السلطة من يسكن، ومن يُقصى، من يملك الحلم، ومن يُنفى إلى هوامش الضواحي .
من هنا، فإننا لا نخاطب فقط الوزيرة، بل نخاطب ضمير الدولة، نخاطب قسم الجرائم المالية، الأجهزة الأمنية، مديرية التوثيق والمستندات، مسؤول الشؤون الداخلية، نخاطبهم باسم الوطن المجروح، باسم العدالة المهددة، باسم المواطنين الذين يعيشون في ظلال قرارات لا يفهمونها ولا يشاركون في صنعها، إننا نطلب فقط ما وعد به الدستور: الشفافية، المحاسبة، المساواة أمام القانون .. إلى التحري الدقيق و الحقيقي في شأن مشاريع التهيئة و انجاز التجزيئات بمدينة “وزان” و “العرائش” ! فقد يكتشفون أن هناك أطراف تنتعش بالمضاربة كما قالت السيدة الوزيرة و تغتني ببيع المعلومة و تراكم الثروة بالتوقيع و المباركة !
في نهاية المطاف، لا تُقاس أهمية التهيئة الحضرية بمدى تناسق خرائطها، بل بقدرتها على توزيع الثروة والسلطة بشكل عادل، وكل وثيقة تخطيط هي – في عمقها – إعلان سياسي: هل نريد دولة مواطنين أم إمارة مضاربين؟ ثم إن سؤال: “أين الثروة؟” ليس فقط شعاراً شعبياً، بل سؤال فلسفي حول من يحكم؟ من يستفيد؟ من يخطط؟إننا نعيش في زمن الدولة المعطوبة، زمن يُطلب فيه من المواطن أن يثق بمؤسسات لا تثق بنفسها،فالمجال لم يعد محايداً، المدينة لم تعد فضاءً بريئاً ،التخطيط لم يعد تقنياً، كل قرار عمراني هو قرار سياسي، وكل توقيع على خريطة هو تموقع داخل الصراع الطبقي، وإذا لم نفهم ذلك، فسنظل نرسم مدناً لا يسكنها إلا الأشباح، ونبني أوطانا لا يسكنها أحد.