بين شرفة القصر والمنفى: الملك الحسن الثاني وسيناريو فشل المسيرة الخضراء

بين شرفة القصر والمنفى: الملك الحسن الثاني وسيناريو فشل المسيرة الخضراء

- ‎فيبلاحدود, رأي, في الواجهة
138
0

بقلم: نورالدين بازين

في الفصل الرابع عشر من كتاب ذاكرة ملك، والمعنون بـ”الخلافة”، ينكشف وجه نادر من وجوه الحسن الثاني: وجه الإنسان المفكر، لا الملك المنتصر؛ الحاكم المتأمل في مفترق الطرق، لا القائد الممسك بزمام المبادرة. سؤاله الصحفي إريك لوران عن السيناريو البديل لفشل المسيرة الخضراء فتح باباً على أحد أكثر المواقف توتراً وصدقاً في حياة ملك، لطالما خُيّل للكثيرين أن الملوك لا يترددون، ولا يتراجعون، ولا يُمنَحون ترف الاحتمال الثالث: الهزيمة.

من شرفة القصر إلى حافة المنفى: الحسن الثاني في مرآة الخلافة والخيبة المحتملة

يقول الحسن الثاني: “عندما عدت إلى الرباط قادماً من أكادير، صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي: لقد كان من الممكن ألا تعود إلى الرباط إلا لِلمّ حقائبك استعداداً للمنفى.”
في هذه الجملة وحدها، تتكثف رمزية اللحظة: ملكٌ وحده على الشرفة، يحدق في البحر كأنّه مرآة لإجابات كبرى، يرى فيها احتمالات لم تقع، لكنه لم يغفل عن التفكير فيها. ليس المشهد فقط سرداً لتأمل داخلي، بل هو صورة مكثّفة للمسؤولية التي شعر بها الرجل أمام 350 ألف مغربي خرجوا في صمت تام يحملون كتاب الله والراية، بلا سلاح ولا حماية سوى الإيمان بوطن عادل.

فالمسيرة الخضراء، التي ستحوَّل لاحقاً إلى “أسطورة الدولة المغربية الحديثة”، كانت في ميزان التاريخ رهاناً ضخماً على الحشد السلمي في وجه استعمار عسكري قديم. ولو فشل هذا الرهان، لم يكن الملك ليلوذ بالإنكار أو يسلك مسلك المناورة، بل كان مستعداً لوضع حد لتجربته على العرش، كما صرّح بوضوح: “لو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلاً، بحيث كان يستحيل عليّ أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم من سلاح سوى كتاب الله في يد، والراية المغربية في اليد الأخرى.”

في هذه اللحظة، ينطق الملك بلغة القلب أكثر من لسان المؤسسة. فالقرار هنا لا يُبنى فقط على معادلات الربح والخسارة، بل على أخلاقيات السلطة. لم يكن مستعداً ليحمّل شعبه ثمن مغامرة تنقلب عليه. وكأن ما يربط بين الحاكم والمحكوم لم يكن فقط عقداً دستورياً، بل ميثاقاً وجدانياً لا يُسمح بنقضه إلا بكبرياء الاعتراف.

لكن، ما كان مصير المغرب سياسياً لو تحقّق هذا السيناريو القاتم؟ الحسن الثاني، بدقّته القانونية المعهودة، لم يترك فراغاً: “كنت سأشكل مجلساً للوصاية في انتظار أن يبلغ نجلي سن الرشد.”
كان يفكر في استمرارية المؤسسة الملكية حتى في غيابه، وفق ما يسمح به الدستور، أي أنّه لم يربط الملكية بشخصه فقط، بل كان يدرك أنها تُمثّل الضامن التاريخي لوحدة البلاد واستقرارها. وبهذا، يقدّم نفسه لا كمالك للسلطة، بل كخادم مؤقت لها، مستعد لأن يغادر بهدوء حين تقتضي المرحلة.

أما الوجه الآخر من الحكاية، فهو وجه المنفى. لم يكن الحسن الثاني يتحدث عن النفي بوصفه عقوبة، بل كاختيار وطني أخير. “كنت سأذهب للعيش في فرنسا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالضبط في نيو جيرزي، حيث أتوفر على ملكية هناك.”
لا تخلو هذه الجملة من الرمزية: نيو جيرزي، الهادئة، البعيدة، حيث لا عرش ولا بلاط، بل ذكريات محتملة ومرارة مضمورة. ومع ذلك، لم يكن خروجه – حسب قوله – ليرافقه سوى الغياب الجسدي، أما القلب، فسيظل في المغرب، يتقاسم مع شعبه ذات الشعور بالخذلان.

تأمل الملك في هذه الفرضية – فرضية الفشل – يبرهن أن أعظم ما يميز القادة الحقيقيين ليس انتصاراتهم وحدها، بل استعدادهم لتحمّل عواقب قراراتهم مهما كانت كلفتها. ففي لحظة مفصلية، يضع الحسن الثاني الوطن فوق العرش، والضمير فوق الحسابات، والرمزية فوق السلطة.

بهذا الاعتراف النادر، لا يرسم الملك صورة بطولية عن نفسه، بل صورة إنسانية عن القيادة: قيادة تقف على الشرفة، لا لتتأمل النصر فقط، بل لتتساءل عمّا لو كانت الريح قد هبّت في الاتجاه المعاكس.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

كمال بنخالد ينتقد السياسة الجبائية لـ OCP: ريع بدون عدالة مجالية

نورالدين بازين في موقف نادر داخل مكونات الأغلبية