بقلم : محمد بوفتاس
يعيش الإنسان العربي اليوم في مفارقة قاسية: فهو يتحرك فوق أرض متغيرة، لكنه يفكر بعقل ماضٍ متجمد. تتسارع من حوله إيقاعات العالم، تتغير الأفكار والتقنيات والأنماط والقيم، فيما يقبع العقل الجمعي العربي في دوائر ماضية، يكررها ويستهلكها دون أن يملك القدرة على تجاوزها.
هذه الحالة، التي تبدو لكثيرين وكأن الزمن قد توقف عند العرب، وجد محمد عابد الجابري لها تفسيرًا عميقًا ومركبًا، قائمًا على تفكيك بنية العقل العربي وآليات اشتغاله.
لم يعتبر الجابري أن توقف الزمن مسألة خارجية أو مؤامرة مفروضة، بل كشف أن العرب أنفسهم قد عطلوا أزمنتهم الداخلية حين توقفوا عن إنتاج العقل النقدي الخلاق.
العقل العربي، في رأيه، بعد العصر الذهبي الإسلامي، انكفأ على ذاته، ولم يعد يمارس الشك والابتكار والسؤال، بل استسلم لسلطة النقل والتكرار. تحولت المعرفة إلى آلية لإعادة إنتاج النصوص، وابتلع البيان والعرفان إمكانيات البرهان العقلي الفاعل.
بمعنى آخر، لم نعد نصنع الحاضر ولا المستقبل، بل أدمنا العيش في ماضٍ مؤجل، نستهلكه كمصدر شرعية وحيد. الماضي أصبح مقدسًا بصورة خانقة، والحاضر صار مجرد ساحة فارغة لاستحضار الأشباح القديمة، فيما المستقبل ظل معلقًا في الفراغ.
مشروع الجابري إذن لم يكن دعوة للقطيعة العنيفة مع التراث، بل كان نداءً للعقل العربي كي يتحرر من آليات الجمود والانغلاق. كان يؤمن أن إصلاح العقل شرط لإصلاح الواقع، وأن نقد التراث هو المدخل الوحيد لبناء فكر عربي حديث متصالح مع شروط العصر، دون أن يفقد هويته أو يقع في التغريب السطحي.
في قناعتي الشخصية، أجد نفسي منحازًا بقوة إلى قراءة الجابري. إن حالة التعطل الحضاري التي نعيشها اليوم هي نتيجة مباشرة لاستمرار هيمنة الماضي على أدوات وعينا، ولعجزنا عن ممارسة النقد الجذري تجاه أنساقنا الفكرية المغلقة.
لا يمكن لمجتمع أن يبني مستقبله بعقلٍ مسكونٍ بهاجس استنساخ الماضي. لا نهضة مع عقل يهاب السؤال ويقدس السكون.
لقد أثبت التاريخ أن الأمم لا تتقدم إلا عندما تملك الجرأة على مساءلة مقدساتها الفكرية، وعلى نحت أزمنتها الجديدة بوعي نقدي حر.
إنني أؤمن بعمق أن العرب لن ينهضوا ما لم يتحرروا من سطوة الحنين المرضي إلى الماضي، وما لم يعيدوا تأسيس علاقتهم بالزمن: لا كذاكرة تتكرر، بل كمشروع يُخترع ويُعاد ابتكاره باستمرار.
فلا مستقبل يصنعه عقل مأسور، ولا حياة تنتظر من ينتظرها بين أطلال القرون الخالية.