حوار: نورالدين بازين
بعد أن أنهى الدكتور عبد الجليل بن محمد الأزدي* ترجمة هذا الكتاب الذي يشكل سيرة للراحل الحسن الثاني في طفولته وشبابه، استضفناه في حوار مطول نسبيا، استغرق أكثر من أربع ساعات ليحدثنا عن محتوى الكتاب وشكل الكتابة فيه وخصوصياتها وعلاقاتها بالسيرة والسيرة الذاتية. وكعادته، ظل طيلة جلسة الاستماع معه حيويا ونشيطا ويتدفق بمعلومات زاخرة ووفيرة عن الكتاب وصاحبه جورج فوشيه ونوع الكتابة فيه وخصوصية المحادثة التي تبدو هنا – في هذا الكتاب بالذات – ذريعة لكتابة سيرة الراحل الحسن الثاني في تقاطعتها مع سيرة المغفور له محمد الخامس ومع تاريخ مغرب يبحث عن الاستقلال واسترداد السيادة واستعادة الوحدة الوطنية بين الشمال الذي كان محمية إسبانية والجنوب الذي ظل تحت الحماية الفرنسية أكثر من أربعين عاما…
مَنْ يتابع فصول هذا الكتاب الثلاثة عشرة، الممتدة فوق أكثر من مائتين وثلاثين صفحة، لا بد أن يسأل: كيف نقرأ هذا الكتاب؟
هو سؤال بسيط ظاهرياً، لكنه إشكالي في باطنه ودخله ومضمَره، طالما أن مفهوم القراءة فيه يستبعد المتابعة السطرية والخطية، وينتصر للقراءة في دلالتها المزدوجة على تقريب المتباعد ومباعدة المتقارب. من جهة أولى، حسب عبارات البلغاري تودوروف؛ وفي دلالتها من جهة ثانية على استكشاف المنطق الداخلي الحامل للكتابة.
هل يعتبر العنوان “المحادثة” دعوة للقراءة بشكل مختلف؟
من الموائم بدايةً التنبيه على أن العنوان يقدم اقتراحًا أوليًا لفهم الكتاب. هذا المصطلح يومئ إلى وضع تواصلي، يتبادل فيه الأقوال والأحاديث شخصان أو عدة أشخاص، تبادل يتيح مشاطرة المعلومات ومشاركتها. وقد تأخذ المحادثة أحيانًا معنى الحوار الذي يتجاوز تبادل المعلومات، إلى تقديم أطاريح ومقترحات في شأن أمور مفصلية ذات أهمية وحساسية في لحظة تاريخية محددة.
إذن هل تعكس المحادثات في الكتاب واقعًا سياسيًا حساسًا؟
هنا يكون الحوار ذا طبيعة سياسية بالمعنى العميق لمفهوم السياسة: أي المعنى الذي تتحدد فيه كممارسة لترسيخ وضع محدد وتأبيده أو لتحويله وتغييره.ولا شك أن ورود اصطلاح (المحادثة) في عتبة هذا العمل ليس اعتباطيًا، وإنما الهدف منه عقد ميثاق مع القارئ، الواقعي والمفترض، بمقتضاه يلزمه أن يقرأ الكتاب الآتي بصفته محادثات وليس بصفة أخرى مختلفة.
هل تعني هذه المحادثات أن القارئ يشارك في الحوار؟ أم أن دوره يقتصر على الاستماع؟
حين قراءة الكتاب بهذه الصفة، يبدو فعلاً أنه محادثات تقتدي بجميع قوانين المحادثة؛ إذ يمر بعذوبة من موضوع لآخر، مفعمًا بسيل غنائي للكلمات يتيح للمتحدث أن يقدم قضيته الخاصة في ارتباط وثيق بقضية شعب ووطن.هذا السيل الغنائي للكلمات حول دقة الشكل يترك المكان، بين الفينة والأخرى، لأحداث مستمدة من حياة الراحل الحسن الثاني.
إذن كيف ترتبط الحياة الشخصية للملك بالأحداث السياسية؟
تتعاقب البديهيات النفسية والثقافية والمسائل المرتبطة بمحيطه المجتمعي الملكي النبيل، وكذا الأمور ذات الارتباط بسني تعليمه من الابتدائي إلى الدكتوراه في القانون، وبتكوينه العلمي والثقافي وتربيته السياسية وذكائه الوقاد وذاكرته القوية والجيدة وسرعة بديهيته ولباقته ولطفه وأناقته؛ أي شبكة الخصائص المميزة له.
هل يبرز الكتاب شخصية الملك من خلال هذه الصفات؟
برغم أن هذه المحادثات تبين أنها ليست فقط ثمرة إثنين وثلاثين عامًا من التعلم العلمي والثقافي، وإنما هي كذلك ثمرة تجربة سياسية طويلة نسبياً وصاخبة، فالمحادثة تبقى مصطلحًا غير دقيق بما فيه الكفاية لتوصيف هذا النص.
إذن هل يمكن تصنيف الكتاب كأدب سياسي؟
حين متابعة قراءة العنوان والكتاب معًا، يتبين أن هذه المحادثات تجري في الرباط وإفران بين رجل دولة هو تحديدا ملك المغرب المغفور له الحسن الثاني، ورجل من سويسرا اسمه جورج ڤوشيه نذر حياته لاستكشاف المغارات والكهوف spéléologue وتدبيج ملاحظات وصفية وجيهة ولامعة بصدد الحيوان والنبات والحفريات وتضاريس الأرض.
ما الذي يجعل هذا الكتاب محوريًا؟ وكيف يعكس الحوار بين هذين الشخصين؟
هنا يوائم طرح جملة أسئلة فيها الكثير من الوجاهة: ما الذي يمكن أن يتحادث فيه مُستَكشِف كهوف مع ملك؟ وهل إمكان الحوار وارد بين الرجلين؟ وهل هذا الكتاب محادثات فعلية أم محض “جلسات استماع”، أي لقاءات فيها يتحدث الملك، ويكتفي القادم من سويسرا بالاستماع والتدوين؟ قد توحي هذه الأسئلة، الدالة على ما وراءها، أنها تَضمر فكراً نقديًا وتقلل أو تنتقص من قيمة السيد جورج ڤوشيه!
هل ترى أن هذا النقد يَقلل من أهمية الكاتب؟
كلا. لا تنقيص ولا تبخيس. ومن الملائم للقارئ، قبل أن يجوب فضاء الكتاب الآتي، أن يضع في اعتباره أن السيد جورج ڤوشيه (1900 – 1982) مثقف عصامي وكاتب حاذق وشاعر مجيد وحكَّاء فذّ ومميز.
هل تنطوي الكتابات التي قدمها ڤوشيه على عمق فكري؟
تكشف كتاباته عن امتلاك يراع سيالٍ، وقلم حيوي ومبتهج. وتكفي للدلالة على ذلك قراءة مذكراته أو سيرته الذاتية التي نشرت في مجلدين: “المرافئ البرية” (1977) وهناك “تغني الطيور الأبابيل” (2017)، والمجلدان معًا يستغرقان أكثر من أربعمائة صفحة.
كيف يمكن أن تساعدنا هذه المذكرات في فهم شخصية ڤوشيه؟
قبل هذه السيرة الذاتية الضخمة والمكتنزة، سبق لمستكشف الكهوف أن أضاء كهوف الحكومة الثورية في الجمهورية العربية المتحدة بعد الثورة الناصرية ومستتبعات هيمنة الحزب الوحيد ومضاعفات تأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد الوطني، ابتداءً من تأميم قناة السويس (26 يوليوز 1956) وصولًا إلى تأميم العقارات والعمارات عام 1961؛ وذلك ضمن سطور كتابه: “عبد الناصر ورجاله – رفاق الكفاح في سنوات المواجهة”، وهو الكتاب الذي ترجم وقدم له الحسيني معدي، ونشرته دار كنوز عام 2009. ويدل جميع ذلك على أن هذا الحكَّاء الفريد والمتميز يمتلك ناصية اللغات السياسية وطرق تدبيرها، علاوة على درايته بدروب كتابة السيرة والحكاية والسيرة الذاتية والمذكرات والتقارير والقصيدة الشعرية.
إذن، هل نجد أن تجربته قد أثرت في أسلوبه الكتابي؟
كي نرد القول على أعقابه، قد يوائم تجديد سؤال البداية ليأخذ الصيغة الآتية: هل نقرأ الكتاب الراهن بصفته “جلسة استماع” أم بصفته محادثة أو حواراً أو تأريخًا أو سيرة غيرية أو سيرة ذاتية أملاها المغفور له الحسن الثاني، في الرباط وإفران، على مستكشف الكهوف الذي يعود له فضل الإصغاء وكتابة ما يُملى عليه؟ جميع ذلك ممكن ومحتمل وتسمح به القراءة السطحية والسطرية والخطية لهذه المحادثات مع المغفور له الحسن الثاني ملك المغرب في ظلال أرز منتجع إفران البهي.
إذن، يمكننا قراءة الكتاب من زوايا متعددة بحسب تأويلات القارئ؟
أفضل من كل ذلك قراءة هذا الكتاب بصفته سيرة Biographie فريدة ومتميزة وغير مسبوقة. أو لنقل إن هذا الكتاب صيغة مستجدَّة من صيغ الكتابة السيرانية Biographique تستفيد من إرغامات وقيود ومحسنات خطاب الرواية، وتُحاورها وتُعدِّلُها وتضيف إليها وتستثمرها لحسابها الخاص ضمن بنية تتراجع فيها جرعة لغة التخييل، فاسحة المجال أمام لغات السياسة والوقائع والوثائق التاريخية والعمليات الاقتصادية والخطب والتقارير وملاحظات الأساتذة وتقاريرهم التقييمية وشهادات شهود العيان… وغيرهم.
يتبع..
*عبد الجليل بن محمد الأزدي
دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانية
باحث وناقد ومترجم أصدر أكثر من خمسين كتابا بين تأليف وترجمة علاوة على عديد المقالات والمداخلات ومقدمات الكتب والروايات والدواوين الشعرية والمجموعات القصصية…
تعليق واحد
الحسين افقيرن
عمل مائز يعكس ما يتميز به أستاذنا الجليل من ذوق رفيع وعلم غزير