حسن إمامي
الذاكرة والتاريخ
لعل كل الشعوب والأمم تمتلك ذاكرة وتاريخا. وهو ما يشكل هويتها وبُعدها الوجودي والحضاري، ولعل الإنسان هو محور هذه الذاكرة والتاريخ، وشرعية البناء الحضاري والثقافي والتنموي.
يجعلنا هذا المنطلق نتحدث عن قصبة بني عمار، ونبحث في تاريخها العريق. فالقصبة تنتمي إلى كتلة جبل زرهون أو جبال زرهون بحسب القمم والمرتفعات والوديان الموجودة بها. ويحفل جبل زرهون بتراث عمراني وحضاري وثقافي كبير جدا، وهو ما يجعله قطبا سياحيا وتنمويا متكاملا، خصوصا إذا ما رصدنا التاريخ المشترك بين جماعاته الترابية ومراكزه وتجمعاته.لم يكن تواجد الرومان دون تاريخ بشري سبقه. وإذ تشير الآثار إلى حضارة مورية اتخذت من موقع وليلي مدينة لها، وتفاعلت في حياة اقتصادية وتجارية وثقافية ودينية واجتماعية وفنية، فإن هذا يدل على أن الإنسان له امتداد في المنطقة لقرون عديدة قبل التاريخ الميلادي. واختصارا للمقام والدراسة، نرصد مراكز قديمة جدا، على الأقل في المرحلة الإسلامية، نذكر منها إلى جانب مدينة مولاي إدريس زرهون، قصبة بني عمار، أولاد يوسف، الصخيرات، الخنادق، وقصبة المرابطين أو قصبة النصراني المطلة على سهل سايس من أعلى جبل زرهون. هذا إذا استحضرنا معها الطرق التجارية والرحلاتية المعتمدة، ستكون معها خطوط منعجرة بصمَت معها حياة فوق الكتلة وتركت آثارا مهمة، خصوصا باتجاه زكوطة مثلا أو باب الرميلة أو تجاه مكس أو “البرقطيزيةla portugaise” بوابة الشمال.
(بعدالخروج من نزالة بني عمار في اتجاه الغرب وبعد حوالي 4 أو 5 كيلومترات يوجد مفترق يمينه يؤدي إلى وزان تطوان سبتة ويساره يؤدي إلى مولاي إدريس زرهون مكناس سيدي قاسم الرباط).
نستنتج مع هذه الملاحظات أن تاريخ المنطقة هو تاريخ مشترك، وسيبقى مشتركا ومترابطا إلى يومنا هذا، وإلى ما نستشرفه من مستقبل واعد للمنطقة، ولقصبة بني عمار، قصبة جذورها بجبل زرهون وفروعها بامتداد آفاق الحلم والسماء. ولا يمكننا اقتلاع هذه الجذور وهذا الانتماء، فهي الذاكرة وهو الوجود والحياة والاقتصاد والاجتماع.
التاريخ الحديث
(مقاومة وتعليم وثقافة وتنمية)
هذه عناصر تشكل مع عنوان هذا المحور أهم ما يمكننا تناوله وملاحظته ومعالجته في هذا المقام. ويمكننا جعل صور مرافقة توثق وتستحضر تكامل هذه العناصر في بناء تاريخ قصبة بني عمار وتاريخ نزالة بني عمار الحديث. وطبعا، ولكل فرد ولكل أسرة، أن يفخرا بهذا التاريخ لأنه حياة ورغبة في الحياة، ولأنه تحدٍّ وصمود في هذا التحدي والإنجاز.
ترجع هذه الصورة إلى بدايات القرن العشرين، وإلى حركة المقاومة التي شكلت وعيا وطنيا ودينيا مبكرا، رفض التعجرف وذلك الدوس على كرامة المغاربة، ورفض الحركة الاستعمارية التي أُكرِه الناس على تجرع مرارتها. فلقد وثّقت الدراسات التاريخية والسياسية لأهم الأحداث المرتبطة بهذه المرحلة في منطقة قصبة بني عمار، وهو ما يجعلها في حاجة إلى توثيق الذاكرة وحمايتها والحفاظ عليها من خلال معهد ومتحف وأنشطة منظمة ومنتظمة خلال السنة، تحيي التاريخ وتعيد قراءته. لقد شكلت سنوات 1907/1911 وما بعدها، أهم مواد هذه الذاكرة الحاضرة الآن.
كنت أفكر في اعتمادها لكتابة مادة روائية منذ سنين، لكن الظروف المهنية والاجتماعية وغياب الحضور الميداني لرصد المعطيات السوسيو تاريخية والسوسيو ثقافية، حال دون ذلك. لكن، يمكننا أن نفكر في مشروع سيناريو فيلم تاريخي سينمائي، وسيناريو مسرحية تربوية وفنية، يتحولان بعد ذلك إلى إنجاز فني رائع. ولقد كانت مبادرة د. إدريس الكريني، في اعتمادهللصور المرتبطة بهذه الأحداث والوثائق التاريخية معها، منطلقا لدراسة تفرعت لتصبح مادة مقروءة، ومادة سمعية بصرية، وحقيقة مشعة في الحاضر، كان كل هذا خير منعش لهذه الذاكرة، وخير مسجل لهذا التاريخ، وخير مرافِعٍ عن كرامة وشموخ الإنسان بهذه المنطقة: قصبة بني عمار، الصامدة والميهمنة على تاريخ المجال والطرق التجارية والأحداث التي سجلتها عبورا وتأريخا ووقوعا، ربط بين مناطق بلاد المغرب ومدنه الكبرى وقوافله التجارية كما رحلاته.
تعود الصورة لبدايات الخمسينيات من القرن العشرين، وتسجل لسيرة أشخاص وسيرة مدينة انخرطت أجيالها مبكرا في الاستفادة من التربية والتعليم، وكما تسجل انخراط الذكور والإناث بالرغبة في هذا التعلم والتكوين للإنسان وتطوير وعيه والنهوض بحياته الثقافية والاجتماعية والشخصية.
هذه الصورة وما يرافقها من صور ألبوم موازٍ، شهادة تاريخية لساكنة قصبة بني عمار وساكنة كتلة زرهون، وعلى الجميع أن يفخر بها، ما دامت تعطي رسالة قوية لمن أتى بعد أصحابها من أجيال، رسالة تبرهن على أن المستقبل، مستقبل الإنسان الواعد، هو الانخراط في التعلم والتكوين والتثقيف، حتى يكون أولاد المنطقة، ذكورا وإناثا، خير سفراء لبلدتهم في هذا العالم الكبير والكون الفسيح. وقد حققت فعلا الفئة المتعلمة ذلك بشكل متميز، جعلني أتعرف عبر مراحل دراستي وحياتي على شخصيات بارزة ومحترمة من قصبة بني عمار ونزالتها، منهم الأطباء، ومنهم الأساتذة المربين، والمهندسين والأطر البارزة في الإدارة المغربية والدولية. منهم كذلك الأمهات والآباء والأسر العمارية التي تشرفت باستضافاتها لي وتعميق الود التاريخي الرابط بيننا كأُسَرٍ زرهونية.
لقد تكونت وتميزت الشخصية العمارية بطابعها القوي العزيمة، والمتوفرة على الرغبة في التحدي وتجاوز الصعاب، وتحقيق الأهداف مهما كانت صعبة، ومهما بدت مستحيلة. كانت هذه الصور وصور أخرى، مرسمي ومرآتي التي أقتدي بها أنا في حياتي، جعلتني أتقوى في إرادتي وعزيمتي ودراستي، أخوض غمار العلم والفكر والدراسة والتعلم، وأخترق العوالم الجديدة دون خوف أو شعور بالنقص. كيف لا وقد شكلت الأسر والشخصيات العمارية امتدادا وتمثيلية وحضورا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا وإنسانيا راقيا عبر ربوع وطننا الحبيب المغرب، وما تزال أجيالها مؤدية لنفس الرسالة بفاس ومكناس والرباط والدار البيضاء وطنجة، وغيرها من المدن المغربية، دون أن ننسى العالمية.
في الصورة كذلك، شخصية والدي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته هو وجميع المسلمين والمسلمات: الحاج محمد إمامي رحمه الله. وما كنت لأستحضر الصورة وأستحضر معها سيرة أبي رحمه الله لولا أنني أعلم أن العلاقة التي جمعته بقصبة بني عمار وأهلها، كانت علاقة فريدة من نوعها، وبقيت إلى يومنا هذا في امتدادها، وفي علاقتي الشخصية مع قصبة بني عمار ونزالتها، ومع أهلها وأصدقائي فيها ومنها.
تترجم الصورة الجانب المشرق الذي يشكل الطاقة الإيجابية في تاريخ بناء الإنسان والشعوب. إنه العمل الجمعوي وفعاليات المجتمع المدني والثقافي الذي تظهر معه أهمية الارتباط بالمنطقة الأم، وأهمية الاعتراف بالجميل، وردِّ هذا الجميل تعبيرا عن زهرة قلوبنا المليئة بالحب والخير والجمال. وهنا نقول إن كل من له غيرة على موطنه الأصلي، عليه أن يخدمه ويرد له جزءا من الاعتبار، ويساعد على نمائه وتأهيله كما تأهيل ساكنته لما هو أرقى وأبهى وأفضل في بناء شخصية الإنسان واستشراف مستقبله وضمان عيشه الكريم.
ولعل ما تقوم فعاليات المجتمع المدني والجمعيات الرائدة في مجال التنمية الثقافية والمجتمعية بالقصبة، يترجم هذه الرسالة وهذا الجهد المبذول والمستمر الذي يخدم الإنسان والمجال، ويساهم في التنمية البشرية وتأهيل العقول والسواعد لخدمة الذات والأهل والمنطقة والوطن، فحب الأوطان من الإيمان.
تشكل قرية بني عمار ونزالتها أفق مدينة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. وتحتاج إلى هندسة وتهيئة عمرانية تحققان ذلك، بين الحفاظ على الذاكرة والتاريخ واستشراف المستقبل الواعد.وتحية جمعوية للجميع