بقلم : عبدالقادر العفسي
في لحظة فارقة من مسار الجغرافيا السياسية لما بعد الاستعمار، تقف الشرق الأوسط و منطقتا شمال أفريقيا ومعهما الساحل الإفريقي، على حافة التفسّخ البنيوي الكامل،إننا لا نعيش فقط في زمن الانهيارات التدريجية، بل في حقبة التعرية الكاملة للخطابات التي طالما تموّهت خلف شعارات “التحرير” و”الشرعية” و”الدفاع عن الشعوب”، ما نشهده هو انتصار صارخ لعقلانية الأدوات على حساب عقلانية المقاصد، حيث تتوارى القيم خلف استراتيجيات التموقع، ويتحول الإنسان إلى مجرد وظيفة جانبية ضمن لعبة أكثر اتساعًا من قدرته على التخيّل أو الفعل .
في هذا السياق الملتهب، لا يعود الصراع في “غزة” سوى النقطة الأكثر بروزًا في مشهد مشبع بالوحشية المؤسسية، عندما توصف أفعال إسرائيل بالإبادة الجماعية، لا يكون الأمر فقط تكرارًا لمصطلحات سياسية مستهلكة، بل هو وصف دقيق لحالة من التدمير المنهجي الذي لا يستهدف الجسد الفلسطيني فقط، بل يطمح إلى محو كامل لهويته البيولوجية والثقافية، والعنف الممارس — كما تشير تقارير أممية — لم يعد عشوائيًا بل أصبح مُمأسسًا، يدخل ضمن استراتيجيات القوة الحيوية التي وصفها “فوكو”، حيث يُعاد تشكيل “من هو جدير بالحياة ومن لا”، وفي هذا المشهد، يفقد القانون الدولي كلّ جديته، ويتحول إلى نصّ زائف، مطواع، يتكئ عليه الأقوياء ليضفوا شرعية وهمية على ممارساتهم التدميري .
لكن ما يزيد الصورة قتامة هو الحضور المركّب لقوى إقليمية، تتلبّس ثوب “الداعم للمظلوم”، بينما هي في جوهرها قوى تسعى، بكل براعة انتهازية، إلى تحويل المأساة إلى فرصة استراتيجية، النموذج “القطري” و”التركي” هنا لا يمكن فهمه إلا باعتباره استثمارًا في العنف الرمزي والمادي على حد سواء،” قطر” عبر أدواتها المالية والإعلامية، لم تعد طرفًا داعمًا بل أصبحت شريكًا عضويًا في إنتاج خطاب الحرب وإدامة الانقسام، الجزيرة، كمنصة إعلامية، لا تؤدي فقط دورًا توجيهيًا للرأي العام، بل تصوغ مخيلة سياسية كاملة تُعيد تشكيل المفاهيم وفق انزياحات أيديولوجية حادة، بحيث يصبح المقاوم الحقيقي هو من يتماهى مع التموضع القطري خاصة و التركي ، ويُقصى كل ما عداه باعتباره امتدادًا “لخيانة” ما !
أما “تركيا”، التي تحاول إحياء العثمانية في صيغة نيوليبرالية هجينة، فإن انخراطها في القضية الفلسطينية لا ينطلق من التزام حقوقي أو إنساني، بل من رغبة في توسيع نطاق التمدد الناعم – لا من خلال الثقافة أو الاقتصاد، بل من خلال توظيف الأزمات كبنية تحتية للنفوذ، “أردوغان” لا يتحرك بدافع التعاطف، بل بوحي من تصور براجماتي شديد البرود، يُخضع كل ما هو إنساني لمنطق السوق السياسي ، إنه تصور “ما بعد قومي”، يُعيد إنتاج الهيمنة بوسائل تبدو ناعمة لكنها لا تقل ضراوة عن الأدوات الصلبة .
المأساة لا تكمن فقط في وجود هذه التدخلات، بل في هشاشة الاستجابات الإقليمية لها، “مصر” التي تمثل أحد الأعمدة التقليدية للمنظومة الإقليمية، تجد نفسها حبيسة معادلة دقيقة: كيف ترد على تهديدات وجودية دون أن تنجر إلى سيناريو حرب شاملة قد تفتح أبوابًا لا يمكن إغلاقها؟ إن تحركها العسكري على حدود غزة هو أكثر من مجرد تموضع دفاعي، إنه تذكير بأن الدولة الوطنية، رغم كل اختلالاتها، لا تزال تملك القدرة – وإن كانت محدودة – على مقاومة الانزلاق الكامل إلى منطق الدولة الفاشلة الذي تنتجه هذه التدخلات الطفيلية .
وفي الخلفية، تتجلى أوروبا في صورة الكيان المرتبك: زيارة “ماكرون” إلى “القاهرة” ليست إلا انعكاسًا لرغبة القارة العجوز في استعادة موقع فقدته تدريجيًا، لا عبر بناء تفاهمات عقلانية، بل عبر مزيج من الانتهازية والدبلوماسية الرمزية، هذا النوع من التحركات يفتقر إلى رؤية فلسفية متماسكة، ويكتفي بتدبير اللحظة على حساب التفكير في بنيات الاستقرار المستقبلي .
وإذا اتجهنا نحو الساحل، نكتشف أن منطق التفكك لا يقتصر على المشرق العربي، بل يتكرّر في صورة تحالفات أمنية متوترة، كذاك المعلن بين “مالي” و”النيجر” و”بوركينا فاسو”، والذي يواجهه اتهام جغرافية ما وراء الجدار (الجزائر/فرنسا الإفريقية ) بدعم الإرهاب وهدا ثابت ، بما يعيدنا إلى معادلة “كلاوزفيتز” المعكوسة: حيث تصبح السياسة امتدادًا للفوضى، لا للحرب فحسب، لقد أصبحت محاربة الإرهاب نفسها أداة لإعادة توزيع الشرعية، لا مخرجًا من الأزمة .
إن ما نشهده اليوم هو إعادة تعريف كاملة لماهية “القوة”، و”السيادة”، و”الشرعية”، في زمن لم تعد فيه الأمم المتحدة سوى إطار مرجعي مهترئ، ولم يعد الإعلام إلا سلطة مضادة للحقيقة، هذا التفكك في المعنى، كما كان سيعبّر “هابرماس” يُخرج السياسة من فضائها التداولي إلى ساحة صراع سرديات لا تلتزم بأي قواعد منطقية أو أخلاقية، أما “تشومسكي” فكان ليقرأ في هذا التحول دليلًا إضافيًا على طغيان الرأسمال السياسي العالمي، الذي لا يتورع عن توظيف المعاناة لخدمة موازين القوة .
هكذا تُفكك “فلسطين” لا فقط كقضية استعمار، بل كحقل تجريبي لأنواع متعددة من الاستغلال السياسي والأخلاقي، وهكذا تتفكك المنطقة، لا فقط بفعل التدخلات، بل لأن النخب فيها ارتضت أن تكون وسيطًا لا فاعلًا، ومترجمًا لا مفكرًا، ومستهلكًا للسرديات لا صانعًا لها ، إننا لا نحتاج إلى إعادة بناء الدولة فقط، بل إلى إعادة بناء المعنى ذاته !
و من ناحية ثانية نعود إلى مجالنا الجغرافي “المملكة المغربية” في خضم الضجيج الإعلامي المتصاعد حول القضية الفلسطينية، يبرز سؤال ملح: هل كل من يرفع الصوت باسمها يفعل ذلك نصرة للحق، أم أن هناك أجندات خفية تستغل قدسية الألم الفلسطيني لتحقيق مآرب أخرى؟ لطالما كانت هذه البقعة المباركة ساحة للصراع، لكن اللافت للانتباه هو هذا الركوب الموجي الدائم من قبل قوى معينة، تسعى ببراعة فائقة لتحويل مسار التعاطف الشعبي إلى وقود لمشاريعها التنظيمية .
لا يمكن للمرء أن يتجاهل دعوة ما يسمى ب”اتحاد علماء المسلمين ” القطرية – التركية ، هذا التنظيم العالمي كما يطلقون على أنفسهم “التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ” ، و لا يُمكن لنا أبدا أن نُهمل التاريخ الدموي لهذه الجماعة التي تأسست على أنقاض إعجاب بفاشية موسوليني ونازية هتلر، تنظيم لم يتوانَ عن التحالف مع قوى الشر في أحلك الظروف،والغريب في الأمر، أن هذه الجماعة التي تدعي احتكار الدفاع عن “فلسطين”، لم تقدم قادتها الصف الأول كقرابين على مذبح هذه القضية، بل إن التاريخ يسجل شكوكًا عميقة حول “نُفوق/موت” بارزين محسوبين عليها، لترتفع أصوات تتحدث عن نيران صديقة أو حتى عن خيانات موصوفة ؟ و لا يمكن لنا كذلك التغافل عن الطقوس السرية لهذه الجماعة بأساس ماسوني ، والتي تستحضر في الذهن صورًا من عوالم باطنية مظلمة، لطالما كانت مدعاة للريبة، بيعات في الظلام، وأيمان على المصحف والمسدس، وولاء مطلق للمرشد… كلها مؤشرات تدل حول طبيعة هذا التنظيم وأهدافه الحقيقية، فهل القضية الفلسطينية إلا ذريعة لتجنيد الأتباع وإعدادهم لعمليات “فدائية” تخدم أجندة أخرى؟
وها نحن اليوم نشهد فصولًا جديدة من هذا الاستغلال، مظاهرات تخرج هنا وهناك بدعوى التضامن لهدا التنظيم العالمي ، لكن سرعان ما تكشف عن نية مبطنة لتحويل الصراع من غزة إلى شوارعنا بالمملكة المغربية ، فتوى مشبوهة تصدر من عاصمة تحتضن قنوات تزرع الفتنة وتحرض على الأوطان ورموزها، بينما تتجاهل تاريخًا عريقًا من الدعم المغربي الصادق للقضية الفلسطينية و دماء شعبنا و جيشنا الملكي ومن شهدائنا التي روت ثرى تلك الأرض المباركة؟ ثم المحاولات ممنهجة لطمس مساهمات المغرب في هذا الصراع العربي الإسرائيلي ، نعم ، ان هذه مفارقات تستدعي منا التأمل العميق، فبينما يشتعل الشارع غضباً إزاء ما يقع في “غزة”، يغيب علم الوطن عن سماء التعبير، ليحل محله صمتٌ وطنيٌّ مدوٍ، وكأن الأرض التي تحتضن هذا الغضب ليست هي ذاتها التي نعتز برموزها وسيادتها، هذا الغياب الرمزي يطرح أسئلة جوهرية حول هوية هذا الحراك ومن يقف خلفه، ليثير الشكوك حول أجندات تتجاوز حدود التعاطف الإنساني النبيل
إن هذه الفتاوى المشبوهة ما هي إلا دعوات مبطنة للخروج عن القانون، وللتصادم مع الدولة ومؤسساتها، إنها محاولة لركوب موجة الغضب الشعبي لتحقيق أهداف تنظيمية ضيقة، مستغلين بذلك أقدس القضايا وأكثرها إيلامًا ، والأدهى من ذلك، هذه الانتقائية المريبة في التعامل مع الأطراف المختلفة، صمت مطبق تجاه دولة تحتضنهم وتدعمهم، بينما يوجهون سهامهم المسمومة نحو أوطانهم وقياداتهم، ليونة غريبة تجاه قوى غربية نافذة، بينما يطلقون العنان لألسنتهم الحادة تجاه إخوانهم في الدين والوطن ، أين كانت حناجر هؤلاء “المدافعين” عن فلسطين عندما كان رئيس الحكومة اليمنية الاسرائلية المتطرف و هو يعبث بوحدة المغرب الترابية؟ لماذا لم يخرجوا بمسيرات غاضبة تندد بتلك التصريحات؟ أين ذهبت غيرتهم على الوطن ورموزه؟ و لماذا لم نسمع لهم حس في قصف السمارة من طرف البوليزاريو الذراع الإرهابي لسلجق فرنسا الإفريقية ( الجزائر) و لماذا ولمادا …و هنا لا نستثني أطفال التياسر من هذه المعادلة .
لكن الأكثر إثارة للدهشة هو الغياب الملحوظ للقوى السياسية المغربية المنظمة عن هذا المشهد الجماهيري العفوي، هذا التقاعس الصارخ يشي بغياب استراتيجية أو ربما شلل في القدرة على استيعاب النبض الشعبي وتأطيره في إطار وطني جامع بل انشغال الأحزاب بالنهب و الفساد و مراكمة الثروة مع موظفين فاسدين في الدولة…فبينما كان من المفترض أن تكون هده الأحزاب هي المهندس لهذا التعبير الشعبي، نجدها متوارية عن الأنظار المنتفخة أوداجها من الأمام و الخلف ، تاركة الساحة مفتوحة لتنظيمات ذات مرجعيات مشكوك فيها منها القبورية التي تحبوا حبو الصفوية بل تدعم المليشيات “الخمنية” المجرمة الطائفية في اليمن و لبنان و العراق و التي بدورها تدعم الارهابين شرق الجدار في مجالنا المقتطع بصحرائنا الشرقية… و أخرى تحاول إعادة مجد “السرورية” لتصعد صعودها و آخرون قلائل من بقايا الباقيا لشيوعية انتهازية ، تستغل عاطفة الجماهير لتحقيق غايات قد لا تخدم مصلحة الوطن العليا. كما قلنا هذا الفراغ السياسي ينذر بتداعيات خطيرة، حيث يسمح لقوى هامشية بتوجيه الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي بعيداً عن المؤسسات الشرعية
في هذا السياق، يبرز اسم تنظيم بعينه، يحوم حوله الكثير من الجدل، كقوة فاعلة قادرة على حشد الجماهير و تأطيرها! في مشهد يعكس ضعفاً هيكلياً لدى الأحزاب التقليدية، هذا التنظيم الذي يمكن وصفه بأوصاف تنبئ بخطورة أجندته الفوق وطنية ، يستغل القضية الفلسطينية كمنصة لتمرير رسائل مبطنة، مستغلاً غياب البديل الوطني القادر على استيعاب هذا الزخم الشعبي ، هنا، يصبح التعاطف النبيل مع قضية عادلة مطية لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة، في غياب رؤية وطنية واضحة المعالم .
أما على صعيد الموقف الرسمي، فيبدو أن هناك إدراكاً عميقاً لتعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، فالمغرب، وإن كان ثابتاً في دعمه للقضية الفلسطينية وإدانته للعدوان، يدرك تمام الإدراك موازين القوى وحسابات الربح والخسارة، هذا الواقعية السياسية قد لا تروق للخطابات الشعبوية المتشنجة، لكنها تعكس مسؤولية الدولة في الحفاظ على مصالحها العليا في ظل محيط مضطرب، إن التنديد بالظلم ودعم الحق لا يعني بالضرورة الانجرار إلى مواجهات غير محسوبة العواقب، بل يتطلب حكمة وروية في اتخاذ القرارات .
ختاماً، يمكن القول إن المشهد الحالي يطرح تحديات حقيقية أمام النخب السياسية والمجتمعية في المغرب، فبين عفوية الشارع وتقاعس الأحزاب وصعود قوى غير تقليدية، يصبح من الضروري استعادة زمام المبادرة وتأطير التضامن الشعبي في إطار وطني واضح، إن تقوية الهوية الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء والولاء للمؤسسات هو الضمانة الحقيقية لمواجهة أي محاولات لاستغلال القضايا العادلة لتحقيق أجندات خفية، فالمغرب بتاريخه العريق وثوابته الراسخة يستحق تعبيراً عن تضامنه يعكس وحدته وقوته، لا تشتته وانقسامه ..