روبورتاج/ نورالدين بازين
مراكش – من قلب المدينة العتيقة، وتحديداً برياض 1112، الذي صار يُعرف اليوم بـ”دار أتاي”، ينهض عبق الزهر ليملأ المكان برائحة تعيد أهل المدينة وزوارها إلى طقوس الربيع القديمة، حيث كانت الأسر تتفنن في تقطير زهر البرتقال لصنع ماء الزهر المنعش والمعطر.
في زاوية هادئة من الرياض، حيث تحاكي الزليجات الأندلسية روحية المكان وتوشوش النوافذ الخشبية بقصص الماضي، تنبعث رائحة الزهر المتقطر بدقة وحب. العملية ليست استعراضية فقط، بل حقيقية، تعتمد على تقنيات تقليدية تُورث من جيل إلى آخر. قدر نحاسي، ماء، نار هادئة، وزهر برتقالي جُمِع من حدائق المدينة أو جلب من نواحي تانسيفت وتامصلوحت… مكونات سحرية لطقس عطري، يكاد يندثر لولا مبادرة جمعية منية التي دأبت جاهدة لاحياء هذا التراث.
منذ أن تم تحويل رياض 1112 إلى “دار أتاي”، لم يكتفِ القائمون عليه بتقديم أنواع الشاي القادمة من مختلف جهات المغرب والعالم، بل حرصوا على إحياء طقوس مغربية أصيلة، مثل تقطير الزهر، الذي كان طقساً ربيعياً يرمز للنقاء، للضيافة، وللتحضير لشهر رمضان.
وفي هذا السياق، وثقت عدسة “كلامكم” بمراكش واحدة من أندر التجارب الحسية المرتبطة بالذاكرة الجماعية: تقطير الزهر بالطريقة التقليدية، داخل فضاء يفيض برائحة الماضي.
شاهدوا الفيديو التالي الذي يأخذكم في جولة بصرية وسمعية داخل أجواء رياض 1112، حيث النار تشتعل تحت القِدر النحاسي، والقطرات الأولى لماء الزهر تنساب كأنها روح العطر المغربي.
رابط الفيديو: تقطير الزهر داخل دار أتاي
العملية لا تقتصر على التقطير فقط، بل تُرفق بشروح موجهة للزوار المغاربة والأجانب، بلغة بسيطة، تقربهم من روح المدينة. “الزهر ليس عطراً فقط، بل هو ذاكرة”، كما يردد طارق آيت بن عبد الله، الباحث في الثقافة الشعبية، والذي ساهم في تصميم الفضاء الثقافي داخل الرياض. “نُعيد الاعتبار لتقنيات النساء، لطقوس الحنين، ولزمن كانت فيه أبسط الروائح تُحيل على طهارة الروح والمكان.”
اللافت أن الزوار يشاركون في العملية، يصورون، يشمون، ويسألون… وبعضهم يطلب قارورة صغيرة من ماء الزهر المصنوع محلياً. إنه نوع من العودة الطوعية إلى الأصل، إلى الجذر، في زمن العولمة.
في دار أتاي، لا تُقدّم الشاي فقط، بل تُقطّر الذاكرة… نقطة بنقطة، وبتؤدة لا يعرفها إلا من عاش ربيع مراكش يوماً. إنه ربيع لا يُقاس بدرجات الحرارة، بل بعبق الزهر، عندما يُقطّر بحب في قلب الرياض، وتحت أنظار العابرين الباحثين عن جمال بسيط لكنه حقيقي.