بقلم : عبدالقادر العفسي
في أرضٍ تُدعى “دولة الرماد”، حيث تتطاير ذرات الخراب في الهواء كأنها أناشيدُ هزيمةٍ قديمة حيث الرماد ليس فقط في الأرض بل في الضمائر ، تقبع بلديةٌ ليست مجرد بقعةٍ جغرافية، بل مسرحٌ كونيٌّ تتجلى فيه أعمق تناقضات الروح البشرية ،هنا، في “مدينة السوابق”، لا تُكتب التواريخ بالأيام والسنين، بل بأسماء الفاسدين الذين تركوا بصماتهم على جبين الزمن كوشمٍ لا يُمحى، أبطالٌ ليسوا من ذهبٍ أو فضة، بل من طين الفساد الممزوج بعرق الخيانة ودموع المظلومين ، إنها حكايةٌ طويلة، معزوفةٌ شيطانية تُعزف على أوتارٍ من خيوط العنكبوت التي تعزف على أوتار القدر ، تتردد أصداؤها بين ضحكةٍ ساخرة وصرخةٍ مكتومة، لترسم لنا لوحةً فلسفية تتجاوز حدود الزمان والمكان .
الفصل الأول: نشأة الأوركسترا الشيطانية !
في هذه البلدية، التي تتنفس ذكريات الهزيمة كما يتنفس الإنسان الهواء، لم يكن التعيين في المناصب مسألة كفاءةٍ أو نزاهة، بل كان طقسًا مقدسًا يُكرَّس فيه أصحاب السوابق القضائية ككهنةٍ في معبد الفساد، السجل العدلي هنا ليس وصمة عار، بل تاجٌ من الشوك المذهَّب يُتوّج به المنتخبون، كأن التزوير والغش هما المفتاحان الأسميان لدخول جنة السلطة، إنها عبادةٌ غريبة، تُقدَّس فيها الرذيلة كما تُقدَّس الفضيلة في عوالمَ أخرى، وتُرفع فيها الأيادي الملوثة بالخيانة لتكون قائدةً للجماهير الغافلة .
وفي قلب هذا المشهد، يبرز كائنٌ أسطوري، ليس مجرد موظفٍ عادي، بل تجسيدٌ حيٌّ لكل ما هو مظلمٌ في النفس البشرية، لنسمِّه “الجابي عازف الظلام”، كائن – أو ربما شبحٌ – اجتمعت فيه الرذائل كما تتجمع الغيوم السوداء في سماءٍ عاصفة، يشبه المرحاض في حركته الدائمة، ينشر رائحته الكريهة على كل من حوله ، نصابًا يرسم خططه كما يرسم الفنان لوحته، غدَّارًا ينسج خياناته كما تنسج العنكبوت شباكها، هي ليس عارًا بالنسبة له، بل وسامًا يتقلده بفخر، كأنه يقول: “أنا لست مجرد فاسد، أنا فنان في الفساد”، خادمًا أعمى لسادة الفساد الذين يقفون كأصنامٍ في محراب السلطة، لم يكن هدفه الخدمة العامة، بل الحفاظ على عرشه المتهالك، حتى لو تطلب الأمر أن يقدم روحه قربانًا على مذبح الطاعة العمياء .
الفصل الثاني: الحوت والنبوة المزيفة !
ومن عجائب هذا العازف كالريح العفنة التي تهبّ من مستنقعٍ راكد، يحمل رائحته الكريهة إلى كل من يقترب منه، إنه فَعل ما لم يجرؤ عليه إلا الأنبياء في الأساطير القديمة: ابتلع حوتًا كاملاً، لكنه لم يكن “يونس” يبحث عن الخلاص، ولا صدِيقًا يسعى للتقوى، إنه مجرد كائنٍ متورمٍ بالفساد، مترنحًا كمن فقد بوصلة الروح، يتمايل بين أوداج السلطة كسفينةٍ تائهة في بحرٍ من الظلام، لم يكن يملك توازنًا نفسيًا، ولا حتى ظلًا من أهلية، لكنه كان نشيطًا كالنحلة في خليتها، ليس ليصنع عسلاً، بل ليفرز سمومًا تُفسد العلاقات وتُمزق أواصر الثقة بين البشر .
خادومًا لمراكز القوة خارج أسوار البلدية، ينفذ أوامرهم كما ينفذ الدمية حركات صانعها، بلا إرادةٍ ولا تفكير، أحكام القانون، التي يفترض أن تكون سيفًا مسلطًا على رقاب الظالمين، كانت بالنسبة له مجرد ورقٍ يمكن أن يُمزق أو يُحرق إذا تعارض مع مصالحه، كان يمشي بين الناس كطاووسٍ متعجرف، لكن ريشه لم يكن من ذهبٍ أو حرير، بل من أوساخٍ متراكمة على مدى سنين ، نعم حتى القضاة، وهم أهل الحكمة والعدل، رفعوا أصواتهم محذرين: “أبعدوا هذه الكائنات عن المسؤولية، فإنها ليست مجرد خطر، بل كارثة!” لكن صوتهم ضاع في مهب الريح، لأن “رئيس البلدية المُعين ” و”ممثل الحكومة و رئيس الدولة” -أصل الداء و مصدر البلاء- كانا جزءًا من هذا العزف الشيطاني، كانا يعرفان كل شيء، بل كانا الحاضنة التي ترعى هذا الوحش الصغير وتطعمه من بقايا الضمير .
الفصل الثالث: في ظل الأنغام المشؤومة !
لنرفع الستار قليلاً، أيها القارئ (ة) النبيه، ولنغوص في أعماق هذا المشهد الكوميدي الذي يحمل في طياته مأساةً كونية، أليس من العجيب أن يتحول الفساد إلى فنٍ راقٍ، يُعزف بأنامل بارعة على أوتارٍ من الجشع والخداع؟ أليس من المرعب أن يصبح الشيطان قائدًا لأوركسترا البشرية، بينما يصفق له الجميع دون أن يدركوا أن أقدامهم ترقص على حافة جرفٍ يتهدد بالانهيار؟ هنا تتجلى المفارقة الفلسفية العظمى: في عالمٍ تُقدَّس فيه الرذيلة كأعلى مراتب الوجود، هل تبقى الفضيلة ممكنة، أم أنها مجرد وهمٍ تلاشى في دخان الزمن؟
” الجابي عازف الظلام” ليس مجرد كائنٍ فردي، بل هو مرآةٌ مكسورة تعكس شظايا الأرواح الضائعة، إنه الشيطان الذي نصنعه بصمتنا، بتبريراتنا، باختيارنا للسكون بدلاً من الاحتجاج ، إنه تجسيدٌ لسؤالٍ أزلي: هل الشرُّ موجودٌ في العالم، أم أن العالم هو الذي يصنع الشر؟ ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر الجانب الكوميدي في هذه التراجيديا: كيف لكائنٍ بهذا العمق من السوء أن يستمر في العزف دون أن تنهار أوتاره تحت وطأة قبحه؟ أليس هذا دليلاً على أن الكون نفسه يحمل حسًّا ساخرًا من الفكاهة؟
الفصل الرابع: الرقصة الأخيرة والصحوة المؤجلة !
وفي ليلةٍ مظلمة، بينما كان “عازف الظلام” يرتقي بمعزوفته إلى ذروتها، حدث ما لم يكن في الحسبان، لم تنكسر الأوتار، لكن الجمهور بدأ يفيق من سباته ،المواطنون، الذين كانوا يصفقون له كالبهائم المسحورة، استبدلوا التصفيق بالصراخ، ورموا عليه ثمارًا فاسدة تليق بفساده، القضاة كما اشرنا اليه ، الذين طالما احتقرهم، بدأوا يطرقون أبواب العدالة بمطارق من حديد، معلنين أن ساعة الحساب قد دنت، وحتى “رئيس البلدية المُعين” و “ممثل رئيس الحكومة و رئيس الدولة” ، الحماة الأول لهذا العازف، بدأ يتلفت حوله بحثًا عن ظلٍّ جديد يلقي عليه اللوم !
لكن هل انتهت السيمفونية؟ كلا، فالشيطان لا يتوقف عن العزف ما دامت هناك أرواحٌ مستعدة للرقص ،”عازف الظلام” قد يسقط، لكن مقعده لن يظل شاغرًا طويلاً، إذ سينهض من رماد الفساد عازفٌ جديد، يحمل نفس الأوتار ونفس النغمات المشؤومة، وهكذا، يبقى السؤال معلقًا كخيطٍ رفيع في مهب الريح: هل نحن ضحايا هذه المعزوفة، أم أننا نحن من كتبنا نوتاتها؟ هل الشيطان هو من يقودنا، أم أننا نحن من منحناه العصا ليصبح قائدًا؟
الفصل الخامس: تأملات على ضوء الهاوية !
أيها القارئ، دعنا نجلس على شاطئ هذه الحكاية، ننظر إلى أمواجها الهائجة ونفكر،.إن هذه السيمفونية ليست مجرد قصةٍ عن بلديةٍ فاسدة، بل هي استعارةٌ للوجود نفسه، إنها دعوةٌ للتساؤل عن طبيعة الإنسان: هل نحن كائناتٌ محكومة بالخطيئة، أم أننا أحرارٌ في اختيار نغماتنا؟ إذا كان الفساد هو المعزوفة التي نرقص عليها، فمن الذي وضع الأوتار بين أيدينا؟ وإذا كان الشيطان هو العازف، فلماذا نستمر في التصفيق له بدلاً من أن ننتزع العصا من يده؟
ربما تكمن المأساة الحقيقية ليست في وجود “عازف الظلام”، بل في قدرتنا على تحمل أنغامه دون أن نثور، ربما الكوميديا ليست في سقوطه، بل في بقائنا واقفين نراقب المشهد كتماثيل من ملح، نذوب ببطء تحت مطر الصمت، ومع ذلك، يبقى هناك أملٌ خافت، كضوء شمعةٍ في عاصفة: أن نكسر الأوتار يومًا، أن نرفض الرقص، أن نختار سيمفونيةً جديدة تُعزف على أنغام الحق والعدل .
الفصل الأخير: دعوة إلى الضحك والتمرد !
أيها القارئ(ة) الناقد(ة)، إذا أضحكتك هذه الحكاية، فأنت محقٌّ، لأنها كوميديا مرسومة بألوان السخرية السوداء، وإذا أذهلتك، فأنت محقٌّ أيضًا، لأنها مرآةٌ تعكس قبحنا بلا رحمة، وإذا دفعك إلى التفكير، فقد بلغنا غايتنا، لأنها دعوةٌ للنظر إلى أعماق الروح، الشيطان يعزف، والأوتار بين أيدينا، فهل نتركها تصدأ، أم نكتب بها لحنًا جديدًا يتحدى الظلام؟ الخيار لك، والمسرح مفتوح، والمعزوفة لم تنتهِ بعد !.